عن كثب/.. صحة بايدن وصحة بوتين.. عنوانان يتصارعان على صدارة الصفحات الرئيسة في وسائل الإعلام، تماماً مثلما يتناحر الرئيسان الأميركي والروسي على فرض السيطرة على السياسة العالمية، فكل منهما يعتنق مذهباً سياسياً على النقيض من الآخر، وهو أمر يمكن الكشف عنه ببساطة من خلال تداعيات الحرب التي يقودها فلاديمير بوتين في أوكرانيا، وبينما تحاول الإدارة الأميركية وحلفاؤها بطرق شتى إيقاف الهجوم العسكري ومعاقبة الجانب الروسي بتضييقات اقتصادية وعزلة سياسية، صعدت إلى السطح لقطات خطفت انتباه فئة كبيرة من الجمهور، تتعلق بالوضع الصحي للرئيس الأميركي وكذلك حال الرئيس الروسي.
غموض حول صحة الرئيسين.. ولكن
ظهر جو بايدن “79 سنة”، الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدة، في أكثر من فيديو متداول يعاني النسيان وأعراض الشيخوخة، وبعد هذا المشهد بأيام انطلقت الأقاويل حول صحة فلاديمير بوتين “69 سنة”، أي أنه يصغر بايدن بعشر سنوات، ويعتبر أطول حاكم روسي بقاء في منصبه منذ خمسينيات القرن الماضي، وقد تم تداول أنباء غير مؤكدة عن معاناته من مرض عضال، حيث ظهر مرتجفاً يسير بصعوبة، وفي تصرف نادر وضع على قدميه بطانية أثناء مشاركته في مناسبة وطنية. فماذا تخبرنا السينما إذن عن الحالة السياسية في البلدين في حال تأزم الوضع وغياب رأس الدولة بعض الوقت بسبب المرض أو الحوادث الطارئة؟
في ما يتعلق بالوضع الصحي للرئيسين الأميركي والروسي، تبدو الأسئلة أكثر من الإجابات، والمعلومات شحيحة في الجانبين، وعلى الرغم من أن البيت الأبيض حرص على إصدار تقرير في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عن صحة بايدن لتأكيد أن الرئيس يتمتع بصحة جيدة ويؤدي مهامه الرئاسية بنجاح، فإن هذه المعلومات على ما يبدو لم تعد شافية أو على الأقل بحاجة إلى تحديث، وبالطبع يتفوق الجانب الروسي في ما يتعلق بشح التصريحات الرسمية حول صحة الرئيس، ومن ثم فهي مثار تكهنات وإشاعات لا سبيل إلى التأكد منها بحكم طبيعة الحكم في الدولة مترامية الأطراف.
رقابة صارمة
وفي حين أن جو بايدن لا يزال يثير الحيرة بشأن تصرفاته خلال ظهوره العلني، بالتالي تتواصل التعليقات من وسائل الإعلامي الأميركية والعالمية حول ما يجري معه، إلا أن الأمر مختلف في الجانب الروسي، ويمكن تفسير ذلك من خلال الفن، فعلى الرغم من أن السينما العالمية بشكل عام صنعت مجموعة من أبرز إنتاجاتها معتمدة على أعمال أدبية روسية، فإن سقف المعروض سينمائياً وتلفزيونياً متراجع للغاية في البلاد، بخاصة حينما يتعلق الأمر بانتقاد الوضع السياسي، فمن النادر أن نجد عملاً يرصد التغييرات المتوقعة في حال غياب قائد الدولة لأي سبب من الأسباب، حتى لو كان الأمر مجرد خيال فني، فالدولة الروسية مثلاً منعت قبل أربعة أعوام عرض فيلم سينمائي يحمل من الخيال والسخرية أكثر مما يحمل من الحقائق، هو “وفاة ستالين” للمخرج الإنجليزي أرماندو لانوتشي، الذي كان يصور بشكل ساخر الصراع بين القوى السياسية بعد فراغ كرسي الحكم عقب وفاة جوزيف ستالين قائد الاتحاد السوفياتي منذ بدايات عشرينيات القرن الماضي، وتناول الفيلم كيف أن أكثر الأصدقاء قرباً من الرئيس كانوا يطعنون بعضهم البعض من الخلف من أجل الفوز بمقعد الزعيم، وحينها برر وزير الثقافة الروسي فلاديمير ميدينسكي التراجع عن عرض الفيلم بأنه عمل مهين للماضي السوفياتي.
اختفاء الرئيس والحرب العالمية الثالثة
الفيلم الساخر لم يكن حاله أفضل من آخر خيالي لعب بطولته الأميركي جيرارد باتلر عام 2018، وأثار جدلاً واسعاً بسبب رغبة موزعيه في عرضه داخل روسيا، وحمل الفيلم اسم “الصياد القاتل” Hunter Killer، وحبكته الأساسية تتعلق بانقلاب فاشل في الكرملين كان ضحيته الرئيس الروسي الذي يجري اختطافه، فيما يحاول الجنود الموجودون ضمن طاقم غواصة أميركية تقترب من الشواطئ الروسية القطبية إنقاذه ممن يريدون الاستيلاء على السلطة وبينهم وزير الدفاع الروسي، وتسبح البلاد في أجواء من التوتر والفوضى بعد أن قرر المتمردون إخفاء الرئيس بغرض تولي الحكم، وكانت الأوضاع تنذر حتماً بحرب عالمية ثالثة.
الفيلم كان مستفزاً حتى للرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه، الذي استخدم حيلة السخرية والتقليل من شأن العمل بالقول، إن أحداثه غير منطقية بالمرة، لأنه من غير المسموح أساساً أن تقترب أي غواصة أميركية من الحدود المائية في روسيا، فدولته لديها قوانين صارمة في ما يتعلق بمرور السفن بمحاذاة القطب، وجاءت تلك التصريحات عقب حضور الرئيس قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين.
وعلى الرغم من تقليل بوتين من الفيلم، لكن هناك تفاصيل بالطبع لم تكن مستبعدة كلياً، على الأقل في ما يتعلق بأن روسيا ستكون طرفاً أساسياً في أي إرهاصات تدفع لحرب عالمية ثالثة، فواقعياً يجري الحديث الآن عن هذا الأمر، بل إن المفكر الأميركي نعوم تشومسكي لم يستبعد نشوب حرب نووية بعد تأزم الوضع بين روسيا وأوكرانيا.
بخلاف ذلك، هناك عشرت الأفلام والحلقات الوثائقية التي تحدث فيها مواطنون روس عن الوضع السياسي في الدولة وبينها “The Term وF@ck This Job”، وعن تقييد الحريات، بخاصة في ما يتعلق بالفن والإعلام، وهو أمر رد عليه فلاديمير ميدينسكي وزير الثقافة الروسي قبل أربعة أعوام بالقول، “لا توجد لدينا رقابة… لا نخشى النقد والتقييمات غير السارة للتاريخ”، بحسب ما أوردت “رويترز”، وكان يتحدث وقتها عن منع عرض فيلم ينتقد أحداثاً تاريخية معروفة.
انتقال سلسل للسلطة بعد مرض الرئيس
في الجهة الأخرى من العالم، تمتلئ القنوات بالتعليقات المتنوعة على صحة جو بايدن، الذي أصبح مادة للفقرات الساخرة في برامج “التوك شو” بعد أن تكرر ظهوره بينما يقول كلاماً غير مرتب، حتى إن مجلة “ناشيونال ريفيو” وصفته بأنه غير طبيعي، وليس مستبعداً أن نرى أعمالاً فنية توثيقية أو حتى خيالية عن تلك الحالة، فالفراغ السياسي في الولايات المتحدة أمر تمت مناقشته كثيراً على الشاشة، بخاصة حينما يتعلق الأمر بطارئ صحي أو كارثة وطنية بعيداً من الانتقال المعتاد للسلطة من خلال الانتخابات الدورية في البلاد.
من أبرز الأعمال في هذا الصدد مسلسل “بيت البطاقات” “house of Cards”، 2013، الذي عرض على مدار ستة أجزاء، من بطولة كيفن سبيسي وروبين رايت، وتناولت الأحداث الخيالية مرض الرئيس وتعرضه للإصابة على يد أحد رافضي سياسته، ومن ثم وفاته وتولي زوجته، التي كانت نائبته في الوقت نفسه، المهام في ما بعد، إذ مرت فترة من الفراغ السياسي والتوتر لكن الانتقال للسلطة في النهاية كان سلساً، وشخصية الرئيس الأميركي في هذا المسلسل تتسم بالانتهازية الشديدة والشر المطلق، إذ نفذ البطل فرانسيس جيه أندروود سلسلة من المؤامرات والاغتيالات ليصل إلى المكتب البيضاوي.
العمل يعتبر من أشهر المسلسلات السياسية في السنوات الأخيرة، وقد أثنى الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما على مستوى الدراما به، وكان يطالب بالحصول على الحلقات قبل بثها على “نتفليكس”، كما غرد بعد انطلاق الموسم الثاني بساعات مطالباً متابعيه على “تويتر” بعدم حرق الأحداث قبل أن يبدأ بالمتابعة.
كارثة وطنية ورئيس بالمصادفة
لكن الفراغ السياسي المتقطع في “هاوس أوف كاردز” لا يقارن بما حدث في مسلسل “Designated Survivor” 2016، حيث يتم تفجير كامل مسؤولي الإدارة الأميركية بمن فيهم الوزراء وأعضاء الكونغرس والرئيس من خلال هجوم على مبنى الكونغرس، وللمفارقة لا ينجو سوى أقل الوزراء شعبية واختلاطاً بالسياسة لأنه كان خارج المبنى، وهو توم كيركمان الذي قدم دوره كيفر ساذرلاند، وتعيش البلاد في ارتباك واضح لشهور، وينهار الاقتصاد بعد أن يتولى وزير الإسكان، الذي كان على وشك أن يقال من منصبه، الحكم بالمصادفة، لكن تدريجياً يعود الاستقرار من خلال معاونة موظفي البيت الأبيض ممن كانوا مقربين من سلفه.
وفي مسلسل “The West Wing” الذي انطلق بثه في 1999 واستمر سبعة مواسم، يخفي المرشح الديمقراطي جوشيا بارتليت “مارتن شين” عن الناخبين إصابته بمرض التصلب المتعدد، وينجح في الفوز برئاسة الولايات المتحدة، لكن وضعه الصحي يظل يقلقه حينما يرى أن قدرته على مواصلة قيادة البلاد والاستمرار في العمل السياسي باتت محل تشكيك.
وكانت الكوميديا السياسية محور فيلم “Dave”، 1993، وفيه يدير البطل الرئيس شركة خاصة، ونظراً إلى تشابه ملامحه مع الرئيس الأميركي تجري الاستعانة به من قبل عملاء الخدمة السرية ليكون بديلاً له في أحد الخطابات، لكنه يجد نفسه متورطاً في اللعبة بعد أن يصاب الرئيس الحقيقي بسكتة دماغية ويظل طريح الفراش، وخوفاً من تدهور الأوضاع، بخاصة في ظل الصراع المشتعل على منصب نائب الرئيس، يستكمل الشبيه مهمته، والمفاجأة أن البديل ينجح في تحسين صورة الرئيس أمام الجمهور، وتحدث تغييرات إيجابية كثيرة في علاقته بمن حوله.
عشرات الأعمال الفنية تناولت كواليس ما يجري في البيت الأبيض، تنوعت ما بين الخيال والواقع وحتى التأريخ، وفي أغلب الأوقات كان يتم تشريح عالم السياسة الأميركية بعيوبه وأيضاً ديمقراطيته، مثلما حدث في فيلم The Contenderبطولة جاري أولدمان وجيف بريدجز وجوان ألين، وأيضاً مسلسلات Commander in Chief، وScandal، وHomeland، مقابل ندرة مثل تلك الأعمال في الجانب الروسي، وإذا حدث أن وجدت فإنها تفلت بصعوبة من العقبات الرقابية، وأغلبها مجرد إسقاطات غير مباشرة.
عن “إندبندنت عربية”