مارلين كنعان*
ليس من إنسان إلا وعرف الإحساس بالملل، إما لأن ما يمر به لا يثير اهتمامه أو لأنه لا يفقه بالضبط معنى التجربة الغامضة التي يعيشها. ففي بعض الأحيان لا يرغب الإنسان منا بشيء أو يرغب بشيء لا يدرك كنهه، فيتكون لديه الانطباع بأن الوقت يمضي متثاقلاً، وبأن ما يشعر به يرجعه إلى نوع من حميمية فارغة تكشف عن طبيعة لا تتفاعل إيجاباً مع العالم قد تقود إلى الموت، علماً أن الملل لا يعني الخمول، وأن العمل الروتيني قد يكون مملاً أحياناً، فيسبب شعوراً بالمحاصرة والتوتر المترافق مع القلق والغضب. فما الملل؟ وكيف تنظر الفلسفة إلى هذه التجربة الإنسانية الغامضة، التي تأخذ، في كثير من الأحيان، شكل تسمية مبهمة نطلقها على كل ما لا يسترعي انتباهنا؟
بغية الإجابة عن هذين السؤالين، لا بد من التفكر الرصين في ظاهرة الملل والتأمل في عدد من النصوص التي تجمع بين حقول معرفية مختلفة كالفلسفة والأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم اللاهوت في محاولة لتحديد هذا الشعور الداخلي بالعجز والفراغ والاضطراب في المزاج، والذي لا يوجد له تعريف واضح حتى الآن. فبعض الفلاسفة نظروا إلى الملل بوصفه أحد أهم الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تستحق أن يفرد لها بحث خاص على غرار الضيق واليأس والحب وغيرها من الأحاسيس والمشاعر والتجارب الإنسانية الوجودية، لكن باستثناء التأملات الفلسفية التي وقعها كل من باسكال وشوبنهاور وسيوران والتي تناولت الملل من جوانب مختلفة ونظرت إليه، كما في نصوص شوبنهاور، كقطب مهم في حياة الإنسان وكمكون رئيس لوجوده الذي يتأرجح كالرقاص بينه وبين الألم. شكل الملل مصدر قلق للكتاب والشعراء والفلاسفة من أمثال فرناندو بيسوا وصموئيل بيكيت وغيرهما، بحيث لم يعرفوا كيفية شرح هذا الإحساس الذي يتفلت من عقال التحليل والتفكير العقلاني. فهو على حد قول شوبنهاور “توق دفين من دون هدف معين”، و”ضباب صامت” بالنسبة إلى هايدغر، أو “جذر كل الشرور” بحسب كيركغورد، أو “إحساس كالسبات، يحتل مثل الضباب كل ساعة روحنا. لا يدعنا نفكر ولا يدعنا نعمل، ولعله لا يسمح لنا بالوجود” على حد قول الشاعر والفيلسوف البرتغالي فرناندو بيسوا (1888-1935) في إحدى أجمل شذرات كتابه المسمى “كتاب اللاطمأنينة”، أو “قلق يرقاني وفراغ مغذ” بحسب إميل سيوران، و”الحالة الطبيعية للإنسان” كما يقول الفيلسوف والعالم الفرنسي بليز باسكال.
ظاهرة ثقافية
الملل، كظاهرة ملازمة للثقافة والحضارة الأوروبية برز بقوة في القرنين الأخيرين، أي منذ ظهور الفترة الرومانسية في القرن التاسع عشر حتى الحداثة وما بعد الحداثة، على رغم أن إحساس الإنسان به ليس شيئاً جديداً. ففي القرن الأول للميلاد كان سينيكا أول فيلسوف اشتكى من الملل، إذ تساءل في رسالة وجهها إلى أحد أصدقائه قائلاً: “إلى متى يجب علينا أن نتحمل أداء نفس الأعمال الرتيبة؟”، معترفاً أنه لا يفعل شيئاً جديداً، ولا يرى شيئاً مختلفاً، وهذا ما يصيبه “بالغثيان”. كذلك في العصور الأولى للمسيحية، وتحديداً في أوساط آباء البرية، برز مصطلحacedia “أسيديا”، وهو مصطلح يفيد الشعور بالفتور الروحي والسأم لجأ إليه الرهبان المتوحدون في قلاياتهم للتعبير عما يصيبهم في بعض الأوقات من تراخ في ما يتعلق بالصلوات والتأملات الروحية، وقد أطلقوا عليه اسم “شيطان الظهيرة” الذي يغوي المؤمن كي يزهد في نسكه وصلاته. أما في العصور الوسطى الأوروبية فقد راج مصطلح “اللامبالاة” للتعبير عن الحالة الوجدانية والسلوكية، التي تدفع المرء إلى التصرف من دون أن يبدي أي اهتمام بما يفعله. فما الذي يجعل الإنسان يشعر بالملل العميق الذي يشبه “الأرق”، “حيث تفقد الذات هويتها وتعلق في فراغ لا متناهٍ”؟
كان شوبنهاور (1788-1860) أول فيلسوف يفكر ملياً في ظاهرة الملل، جاعلاً منه ما يكشف بامتياز عن أعماق الوجود الإنساني. فقبله وقبل الصفحات التي كرسها له عام 1818 في كتابه الأساسي “العالم بما هو إرادة وتصور”، لم يكن الملل أبداً موضوعاً لمثل هذا التحليل الفلسفي الدقيق.
بالنسبة إلى شوبنهاور فإن العالم الذي نعيش فيه عبارة عن وهم يخفي وراءه حقيقة يعجز الإنسان عن بلوغها إلا بواسطة حدس قادر على اختراق جدار الأحداث الكثيف. فعالمنا عالم عبثي ينطوي على كم من المآسي والآلام، تسيره إرادة تتجاوز إرادة البشر. غير أن الناس، باندفاعهم الأعمى والعبثي نحو الحياة، يظنون أنه بإرادتهم وبقوة رغباتهم سيتمكنون من فهم حقيقة العالم وتحقيق وجودهم. فنراهم يتشبثون بالحياة في كفاح مستميت، مصارعين الموت كل حين. غير أنه في النهاية ستكون الغلبة للموت، إذ يكفي أن نولد لنموت، لذا كانت إرادة الحياة ضرباً من الجنون والعبثية المربكة، لا سيما على مستوى الرغبة التي لا تشبع.