من تخصص هندسة مدنية إلى عالم الأدب، كتابة الرواية تحديداً، جاء الكاتب أمين غانم ليكسر نظريات الكتابة ويجدد عناوين الرواية وفصولها.. أديبُ أنجبته معاناة شخصية وأسرية، وأوصلته الآمال إلى رفوف المكتبات العربية بأكثر من غلاف.
في هذه المساحة من “عن كثب” نتعرف على الرواية من وجهة نظر الكاتب الروائي أمين غانم الذي قارن بين كتاب الأمس واليوم.. وكشف عن جزء من بداياته مع القراءة والكتابة واستفادته من العالم الأزرق “الفيسبوك”، والكثير من التفاصيل التي لخصها في السطور التالية:
الكتابة هي محاولة للإمساك بروح ما، روح الكاتب أو روح العصر أو الإنسانية كلها، هذا يعني بأنها من تمتصنا وتستوعبنا في نسقها (مهما بدا لنا محدودا) أولا، لم تعد المسألة تحتاج للكثير من التفسير والتصنيف، فقط عليك الإنصات لداخلك، ستجد نفسك تتماهى ببصيص رفيع أو بنقاط بالكاد تحاول المضي خلف وهج لحظي يتلاشى للتو.
والكتابة أيضاً هي أن تجد نفسك في خضم لا تدري ما هو ولا إلى أين سيأخذك، وحين تتدفق الصور لمجرد امتلاءنا بأثر أقدام يكبر وتكبر معه المساحة التي تمكننا من الرؤية والحركة أكثر من ذي قبل.
لم تعد الرواية بتلك المفارقة الأخاذة في حياة الناس بقدر ما صارت حالة خاطفة تصلنا بما يدب بأعماق هاربة، وغدت كتابتها اختزالاً فتاكاً لإستنطاق روح من براثن مشابهة لملكاتنا ذاتها.
ولم تعد بذلك العنفوان حتى تثير جدالات حول شكلها ومواضيعها أو حجمها، لأن مسالة الاتجار بمواضيعها ولى ولم تعد صالحة لاستهداف فئات عمرية عن غيرها، ثمة ما تغير في الجوهر، لهذا من الصعب أن تجد (اليوم) روائي يكتب على شاكلة الغير أو استجابة لذائقة الآخر (السائد).. بمعنى أن يظل ذهن الكاتب مشغول بمحددات وتفاصيل تسلبه ذاته وتحول مهمته كعارض أزياء مغلوب على أمره يتحرك بخطوات مرسومة لاستمالة الأعين الفارغة، ولم تعد كتابتها صالحة لأية مراهنات الآن بقدر ما باتت محاولة مستميتة لإعفاء النفس منها، لهذا نراها تتخذ صوراً وملامح غير نمطية وبشكل غير مسبوق.
الإبداع إن لم يمضِ بنا للسفر نحو المجهول لن يغدو شيئاً مهماً، فقط يتحتم علينا أن نستوعب ما بداخلنا من ذبذبات بعيدة، فمن الصعب على أيّ منا أن يؤمن وبسهولة بأن لا حقائق قاطعة لتوصيف ذاته كعالم غائر لا نهاية لملامحه، وتظل الكارثة في اندياحنا مع الطوفان الجبار كعناصر هشه لا تملك من أمرها شيئا.
– الكتابة أو الإبداع بشكل عام هو إحساس مبكر بالوجود، فلا بداية للإحساس لأنه بمثابة جذور لانهائية بأعماق قصية بداخلنا، ولا أحد منا قادر على ملامسة جذوره إلا كأوجاع غير منسية، كما قد تتخذ الكتابة تصرفات مختلفة من الإنزواء والتمرد.
– وكتابة الرواية ليست غاية ولن تكون يوما حلماً مستقبلياً، لأنها تأتي في توقيت لا نتوقعه، ربما في بداية حياتنا نُشغف بعالم الروايات ونجد في تعرجاتها أجوبة كثيرة لكل ما نواجهه، لكننا حين نكبر ونشرع في خوض حياتنا العملية نجد أنفسنا بمعزل عن ذلك العالم المخملي.
شخصياً دخلت في ٢٠١١ العالم الافتراضي ووجدت فيه عالماً آخاذا، مع توقف أعمال الأشغال فاستعدت شغفي للقراءة ولم أذهب خلف السياسه، بل كان سحر العالم الأزرق أكبر من إغواءات وقائع الصراع، وشرعت في كتابة بعض المقالات والتي وجدت ترحيباً من بعض المواقع والصحف الورقية، وكنت أميل إلى الكتابة العميقه والفلسفية، واستعدت عشقي الكامل للمعرفة، ومع اندلاع الحرب في مارس ٢٠١٥ تفرغت تماما لقراءة بعض الأعمال الروائية الصادرة حديثاً، ووجدتني أغوص في ثنايا تلك النصوص بكل كياني، كنت أكتب انطباعاتي لأروي عطشي أولاً، لم أكن أفكر إلا بالامتلاء بتلك الحميمية التي تنسيني ما تحدثه نيران الحرب في بلدي.
هكذا وجدت نفسي بعد غياب عن القراءة استمر من ٢٠٠٢ وحتى ٢٠١١، وكلما أقرأ نصا سردياً عربياً أشعر بأن ثمة حلقة اكتملت بداخلي.
يمكن القول أن الكتابة والقراءة هما فعل ابداعي ولن يكونا يوماً فعلاً وظيفياً ذي مردود نفعي أو مادي، فلو كانت الكتابة تُفرض علينا لأصبح الملايين كتاباً من أول أزمة صغيرة.
الشيء المعروف أن الأحداث الكبرى تدفع بأصحاب الملكات المتوارية للظهور، كأن دورات الحروب هي من تضخ وتدفع بالعقول والأقلام الجديدة المنوط بها تعزيز الوجدان الجمعي نظراً لتحلل الكثير من قيم الأمة، وإذا استعرضنا الأقلام المؤثرة قبل الحرب وقبل اندلاع موجات ما يسمى بـ “الربيع العربي” وقارناها بالأقلام الجديدة التي صعدت من أعماق الجحيم ظهوراً ملفتاً لأسماء حديثة حيث غدت جزءً أساسياً من المشهد الراهن، هذا لا يعيب الأقلام والكتاب الرياديين بل يزيدهم اعتزاز بالذات لمجرد اعتناق أجيال أتت من المجهول لرفدهم كدماء جديدة من المؤمنين بالكلمة الحقة كسلاح جبار للتغيير والبناء.
– أنا قارئ نهم لكل ما يقع في يدي من كتب وصحف ودوريات ثقافية، وكنت خلال دراسة الثانوية (في تسعينات القرن الماضي) انتظر ملحق الثورة الثقافي وكل الصحف الحزبية والأهلية الأسبوعية التي تصل مدينة إب نهاية كل أسبوع، أسماء المبدعين تشدني، لا أريد أن اذكر أيّ أسماء لأني كنت اقرأ كل ما تنشره الصحف والدوريات اليمنية، وكانت كتابات الرازحي بمثابة البلسم الشافي لكل ما يحاصر واقعنا، وأتذكر مقابلة له أجراها الصحفي السوري بيان الصفدي، وقد حافظت على نظافة الصحيفة حينها لدرجة أني استبدلتها بنسخه جديدة من المكتبة حين داهمها الاهتراء.
وفي مرحلة الدراسة الجامعية بدأت رحلة القراءة على أصولها، فكنت أذهب للمكتبة المركزية واستعير الروايات العربية والعالمية بالإضافة إلى مركز الدراسات والبحوث، من هنا بدأ شعوري بالاغتراب من الهندسة وكنت أجلس في ركن قصي من القاعة، اغتراب مركب نظراً لظروفي المادية التي لم تكن تساعدني للإيفاء بمتطلبات الدراسة ومن زاوية أخرى ظليت أحن لعالم الروايات القريب إلى نفسي، لكني تماسكت وحافظت على شخصيتي كأول دارس للهندسة في المديرية، وكان العام الأول والثاني هما الأصعب والأكثر مرارة في حياتي، ففي السنة الجامعية الثانية تم حرماني من دخول قاعة الامتحان نظراً لعدم سدادي رسوم العام الدراسي وكانت حينها لا تتجاوز مبلغ ثلاثة آلاف ريال، وشاء الله أن أكمل دراستي الجامعية حيث تحسنت ظروف أسرتنا المادية بدرجة نسبية وتحولت دراستي للهندسة لضرب من المتعة، لكني أتذكر موقفا مراً وقاسياً، أثناء تجهيزنا لمشروع التخرج أنا واثنين من الزملاء كنت أمُر بضائقة مالية، وبقيت اشتغل في تجهيز المشروع بدون وجبة غداء ولا حتى عشاء، فقط خبزة مع كأس شاي، وفي العاشرة صباحا من اليوم الثاني شرعنا في مناقشة المشروع وأنا خاوي البطن فلم أتناول أي شيء منذ الصباح الباكر وأثناء وقوفي لمناقشة المشروع أمام لجنة من الدكاترة كنت أشعر بدوار وكنت أجاهد للتماسك والثبات ممسكا الحائط مستحضراً وجوه أبي وأمي وأخواني كقوة خفية تمنحني القوة لإكمال المناقشة حتى النهاية، ووصلت للمراد وتخرجت وحصلت على وظيفة في وقت لاحق.
أنا من أسرة فقيرة، ذقت ألوان من الحرمان، وكانت القراءة والانزواء هي السلوى الوحيدة لطالب لم يتجاوز المرحلة الإعدادية (تاسع حاليا)، همت بمؤلفات الدكتور عبدالعزيز المقالح وطالما وجدت في قصائده عزاء كبير بل كانت الدواوين الشعرية والدوريات هي حياتي المزهرة بالأمل، ورغم ميولي الأدبية والثقافية لكني بعد تخرجي من الثانوية درست في كلية الهندسة نظراً لتميزي في المواد العلمية والأدبية أولاً ولأن أسرتي تنتظر مني الكثير، وكان لشقيقي الأكبر عبدالعزيز دوراً كبيراً في مساندتي وتعزيز ثقتي بالغد.
– بالنسبة لكتابة الرواية فالنص والأحداث والشخصيات تتشكل في لحظة غريبة من الانصات للذات، كل شيء يتصاعد بطريقة لا ارادية، وعليّ أن أمضي خلف ذلك الوهج البعيد بصمت، إنها متعة السفر والتحليق نحو المجهول التي تفضي بنا الى الجمال، لأن الكتابة الإبداعية تنتفي وتفسد حين تتحول لحالة من التخطيط والرسم المسبق، علينا أن نترك إرادتنا جانباً، علينا أن نستشعر ما يدب في الأعماق، والابداع يختلف كليا عن التأليف، بإمكان الغالبية من الناس الاعتياديين أن تختار شخصياتها وموضوعاتها بسهولة وتكتب قصة أو دراما بأيّ مستوى من التوجيه لكن الإبداع غير هذا، الإبداع أن تترك نفسك لشيء ما يحملك إلى المجهول وتظل أميناً في اقتفاء خيط الأحداث دون اعتراض، حين تؤمن بأن فعل كهذا هو بالضبط ما يملأ روحك بالرضا والأمان ولا تنتظر من كتابتك هذه شيئاً، هنا يتحقق التوق الخالص للجمال سواءً من قبل الكاتب والفنان أو من قبل المتلقي الذي يفترض أن يكمل المهمة وتشع روحه بالجمال لمجرد استشفافه للعمل الفني يوماً ما في عصرنا هذا أو في أي عصر من العصور.