أحب عروة بن الورد أكثر من غيره من الصعاليك لأنه لم يتوقف عند اعتبار الصعلكة نموذجا للتمرد المسلح على نظم وتقاليد القبيلة والخروج عنها لأجل الخروج فقط، بل خلق ما يسمى عندنا اليوم بالحركات اليسارية بشكل لا يكتفي بالتنظير والنقد إنما محاولة خلق عدالة اجتماعية تجعل الجميع سواسية في الحقوق والواجبات وأولها حق الوجود والمواطنة.
والجانب المشرق من شخصيته هو أنه خلق للصعلكة بعدا فلسفيا وفكريا يتعالى عن حظوظ النفس ومحاولة تحريرها من الاستئثار بحقوقها كمحاولات فردية متفرقة دون دستور واضح فالأنظمة دوما لا تسقط بسبب الثورات العاطفية أو الاستنكارات غير الممنهجة لأن النتيجة الحتمية لذلك هي تجديد الأنظمة السائدة لجلدها وتمكينها لنفسها ضد من يحاول الخلاص منها بأشكال أقسى وأبشع من سابقتها.
فكثير ممن خرجوا عن قبائلهم أو من لم يرضوا بالأعراف و القوانين السائدة آنذاك كانت أسبابهم في ذلك انتقامية بحتة لا تجعل الجماعات متساهلة معهم على الأقل في وضع حلول مشتركة تضمن وجوديتهم المستلبة ورفع أصواتهم المبحوحة المقهورة طلبا لمعاملة أرقى وحياة كريمة أفضل.
الشنفرى كمثال حي للفكر الفرداني الخلّاق سواء على مستوى اللغة أو نمط المعيشة أو مغايرة السائد في كل شيء ظلم كثيرا بنبذه من طرف القبائل التي حاول الاستلحاق بها فرارا من حيف النبذ وعدم الاعتراف من قبيلته الأم لكن مسلكه كان انتقاميا صرفا ضد خصومه ومخالفيه وهو معذور في ذلك لأن الصبر في تلك البيئة المتشبعة بمبدأ البقاء للأقوى كان قرين الموت والفناء وهذا المسلك هو ما جعله ينقل عصارة فكره لأمم غير عاقلة ( وحوش البرية كمثال) في نظرنا كبشر وعاقلة ومتكافلة اجتماعيا في نظره كيساري منبوذ من طرف الجماعة فهو يراها في لاميته الخالدة أحق بوصف الأهل حامي الحمى وحافظي الأسرار وأليق بحمل رسالته لأنها غير منوطة بتكليف سماوي ولا واضعة لدساتير ومنظمات حقوقية وهمية لا تكفل حقوق المظلومين واليتامى وذليلي المكانة والجاه والنسب وجوديا كحد أدنى من الكرامة.
عنترة بن شداد لم يسر على منهج الصعلكة أو اليسارية هذا أبدا ربما ليقينه أن الخروج عن الجماعة ضعف وقلة حيلة وإن كان ثمنه حرية غير ممنوحة تحت طائلة من أو أذى فهو أراد منطقة راحة شعورية وحلا فكريا آمنا في بقائه بينهم للإفتخار بمآثرهم فيما بعد لذلك ناضل من أجل حريته هو ولم ينكر على القوم استعباد غيره حين ظفر بها لذلك يقول عنه الشاعر رباح فالح : أن الفكر الباطن للعبد لم يفارقه حتى في حالة حريته لأنه لم يناد بتحرير غيره !
..
كان عروة سيدا في تفكيره ورؤاه وقراراته في جميع أطوار حياته و رأى في مال الأغنياء البخلاء حقا مشروعا لكل فقير معدم ومظلوم مضطهد لذا اقتصرت حملاته عليهم دون الأغنياء الكرماء وهو وإن دخل في العصر الحديث تحت مسميات عديدة كقاطع طريق أو زعيم مافيا أو زعيم حركة إرهابية أو مجرم فارّ من العدالة إلا أن أصح تسمية له لو جاز لي وضعها تاجا على رأسه هي : مناضل قومي أو ناشط حقوقي يندرج تحت خلفية فكرية عميقة.
أراه اليوم متكئا في خيمته ينشد أحفاده الباقين في هذا العصر :
أقسّم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد !
..
لا تخف يا جدي اليساري عروة فقد تعلمنا تقسيم جسومنا على الخلائق وإن كانت حصصنا من مغانم الأنظمة قليلة !
…..
* كاتب وشاعر جزائري
* الصورة للممثل “مهيار خضور” في مسلسل عروة بن الورد