بشير المصقري*
*في ذكرى وفاة شاعر اليمن عبدالله البردوني
أتحدث عن ضمير البلاد، عن خاتم الشعراء، عن مجد القافية، القافية التي امتصت كل هذه الهزائم، و بيرقت الضوء، و عزفت الإرث التليد للإنسان و المكان والجبال و الأمثال و الوديان و العهود و السدود و القصور والتبابعة.
أتحدث عن فلسفة الرائي التي فردست حلم البلاد النبيل، عن صلوات الكلمة و ابتهالات القصيدة في أزمنة مغلقة، مازال اليمنيون يكابدونها، ثم استمرأ تلك الأزمنة في خيالات ادلهمت فجأة و أنا امخر عباب بيت البردّوني في قرية البردّون في الحداء بمحافظة ذمار، أتأمل جدران المنزل العتيقة و اشعر برغبة جامحة لتقبيل كل جدر و حجر، ثم تراودني رغبة للبكاء كلما اجتاح ذهني طوفان سؤال، وانا أتخلق في فضاءات المنزل المحطمة و الآيلة للصعود، نعم للصعود، ليس لدي قدرة على القول آيلة للسقوط.
صوت آخر داخلي يقهقه ويقول لي ما اغباك، لقد سقطت البلاد بكل مرابعها ، وهنا استجمع قواي و أنهض بأشجاني مقامراً لأقول لهذا الصوت الهارب لا، ستنهض البلاد من داخل هذا البيت العتيق، فالقصائد تقول لي ذلك، وما زلت استوحي منها أن البلاد ستحول إلى طائر فينيق وتحلق من جديد.
في ذلك اليوم كنت لا أريد مفارقة المنزل، كان الرفاق حائرون ويصرخون، اخرج فالمنزل انقاض، سينهار بك، لا أجيب، و لسان حالي يقول فلينهار بي، لعل الأنقاض تحدثني عن سر ذلك البيت ولا اقصد البيت كعقار، بل أقصد البيت الوارد في قصيدة الشاعر الكبير ضمن قصيدة أحزان و أسرار والذي يقول:
نبتني لليمن المنشــود مــن
سُهدِنا جسراً وندعوه تعال
يا الله كيف لكم أيها السادة لم تتمعنوا في هذا البيت الشعري، كيف لم نتهجاه كما يجب، كيف لم نستشف النبوءة التي ازعم أنها ستكون، لقد قال الشاعر الكبير هذا البيت في طيات قصيدة اسمها أحزان و إصرار، أن هذا العنوان يكفي لتثقوا بأن البلاد لا تموت و إن مرضت، ناهيكم عن أن هذا البيت يربط لنا أحزمة الأمان، طالما انه قيل في أزمنة مظلمة او لنقل شبه مظلمة، أو وهي تعارك حينها تهويمات أخيرة للظلام، فقد وجد البيت ليبقى كلما باغتتنا جائحات الظلام، فهو لا شك سينفض غبار التاريخ، و يستلهم المجد مجدداً و يأمر التاريخ تالياً أن يقف.
أو ليس هذا البيت الشعري عنواناً لعراقة و حضارة اليمن العظيم مهما استبد به الزمن وجارت عليه الاحقاب البغيضة وتناهشه الطغاة و تكالب عليه الرجعيون المثقلون ببيادق التخلف.
أو ليس هو أيضاً خارطة يستمد منها الشعب قوته وعزمه وإراداته.. و أما البيت العتيق الذي أحسست أمامه برهبة في زيارتين متباعدتين آخرها كان العام الماضي مثل اليوم في ذكرى وفاة الشاعر الكبير الثانية والعشرين.
السؤال الذي تعلق في تلافيف دماغي وأنا أهم موجوعاً بمغادرة فردوس المهد و الميلاد و الطفولة التي اجترحها البردّوني قبل مائة عام فيه، فهو سؤال تحنط في المدى ومازال يتوارب في ذاكراتي ويقول يا ترى في أي غرفة كان مولدك داخل هذا الفضاءات المقدسة يا ضمير الشعب و خاتم شعراء الأرض.
*في ذكرى وفاة شاعر اليمن عبدالله البردوني
*شاعر وكاتب يمني