لطف الصراري*
أكثر من 1400 سنة و”حديث الغدير” مسألة إشكالية بين العرب دون بقية المسلمين من القوميات الأخرى. وفي حين زالت هذه الجدلية من الدول العربية التي تحكمها أنظمة تنتسب لأسرة النبي محمد (عليه الصلاة والسلام)، تستمر سلطة الحوثيين “أنصار الله” في إحياء الجدلية ذاتها، بدلًا من معالجة آثارها التاريخية على المجتمع.
ما كُتب وما قيل في هذه المسألة حوّلها إلى أيقونة صراع سالت بسببها دماء بأضعاف كمية الحبر الذي دوّن به المؤيدون والمعارضون آراءهم وتأويلاتهم لمعنى “الولاية” واشتقاقاتها اللغوية والاصطلاحية.
لم يختلفوا على صحة الحديث، بل على تفسيره وتأويله. والمتواتر من تلك التأويلات يشير إلى أن الصراع على الحكم منذ وفاة النبي (عليه الصلاة والسلام)، انطوى على جانب دنيوي لم يتورع المتصارعون على حيازته عن الاتكاء على أحاديث النبي وعلى القرآن، والتنقيب المجهري فيهما عما يدعم التأويل.
والثابت في سيرورة هذا الصراع يتمثل في كون بقائه محتقناً في النفوس، وإحيائه بين فترة وأخرى عبر التاريخ، جعل الأمة التي وحّدها النبي محمد (ص)، تظل قابلة للانقسام والتشظي بصورة عابرة للأجيال.
وعندما بدأ انحسار نفوذ الدولة الإسلامية من الأراضي الأوروبية، كان من السهل على قادة “الحملات الصليبية” أن يعثروا على أيقونة الصراع المدمرة هذه، وسعوا لجمع أجزائها كقطع مرآة مكسورة. هكذا تمكنوا من رؤية نقاط القوة الضاربة لدى العرب ونقاط ضعفهم، أو بالأحرى، نقطة الضعف التي أسفرت عن فرز طائفي فتّاك. بدأ الفرز بثنائية: “سنّة/ شيعة”، ثم توغل بصورة انشطارية في النسيج العصبوي لكلا الطائفتين، مفرّخاً عشرات الطوائف والجماعات، حتى صارت كل منهما قابلة للتآكل من داخلها ومغذّية للعداوات الحيّة في محيطها.
بعد كل هذا الصراع التاريخي على الأحقية بالحكم وفقاً لمبدأي “الموالاة” و”المعاداة” لعلي ابن أبي طالب وأبنائه وأحفاده، يطل سؤال مصيري عن الجدوى الدينية من الخوض في تأويلات “حديث الغدير” ومقاصده الدنيوية؟ ذلك أن زمن القرن الحادي والعشرين للميلاد/ الخامس عشر للهجرة، وما وصلت إليه المجتمعات والدول من نضج معرفي لمبادئ السياسة والحكم، هذا الزمن ومعطياته لم يعد يحتمل تغليب قوة السلاح وتولّي الحكم بالإجبار، ناهيك عن وجاهة الحِجاج باستحقاق الحكم بموجب أفضلية النسب.
لم تكن النبوّة مُلكاً قابلاً للتوريث، وقد تمسّح الملوك والسلاطين بالدِّين طويلاً للسيطرة على رعاياهم وإيهامهم بأن الحنكة في القيادة والحكم محصورة بالجينات الوراثية لسلالاتهم. بل إن هذا التضليل ما لبث أن عفا عليه الزمن بعد أن سئمتهم شعوبهم وصارت أكثر نضجًا لتعرف حقها في اختيار السلطة التي تضع فيها ثقتها. والثقة بالسلطة الحاكمة تُبنى وفقاً لسلوكها الذي يلمس فيه الناس تحلّيها بالمسؤولية تجاههم واحترامها لحقوق مواطنتهم لا معاملتهم كرعايا منتقصين، ناهيك عن ضرورة وجود خطط وبرامج عمل ملموسة بوضوح لتنمية المجتمع وتطوير بُنية الدولة في كافة المجالات المتعلقة بحياتهم وبوضعهم الاعتباري بين بقية شعوب المنطقة والعالم.
من المعيب فعلاً أن تحاجج أي جماعة بأحقيتها في الحكم بموجب أفضلية تنسف مبادئ المواطنة المتساوية والكفاءة ونزاهة النفس واليد، وهي مبادئ قام عليها الدين وانتظمت من خلالها حياة الحاكم والمحكوم، السلطة والمواطن، الدولة والمجتمع، عدا خلال الحِقب المظلمة. ثم ما الذي آلت إليه السيطرة على السلطة في اليمن، أو في غيره، وفق مبدأ هذه الأفضلية المعيبة والمنفّرة والماحقة للقبول لدى الناس؟ لا شيء غير التشرذم والاقتتال، وإضعاف الهوية الوطنية الجامعة إلى درجة الهشاشة والانفصال الوجداني بين المجتمع والسلطة وانفراط عقد الثقة بينهما.
للسلطة خصائص إغواء كفيلة بتعطيل حواس العدالة، وللشعب نباهة الملفوح بالنار، وحين يُغلب على أمره لا يجد غضاضة في ترك استحقاقاته تتراكم على السلطة الحاكمة مثل دَيْنٍ مُتيسّر. كل ظلم يتعرّض له يرتسم تلقائيًا في قسمات وجهه المكدود، وكل قهر يحتقن في دمائه ينتقل عبر الأجيال، ونحسب أن هذه الحرب علّمتنا الكثير مما ينبغي أخذه بالاعتبار لأجل مستقبل متعافٍ من العداوات والانقسام.