د. مطهر العباسي *
بداية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ “مدونة السلوك الوظيفي” وثيقةٌ متعارف عليها في معظم الدول لتعبِّر عن حقوق وواجبات الموظف في المؤسسات الحكومية وتحدّد طبيعة العلاقة بين الموظف ورؤسائه ومرؤوسيه ومؤسسته، كما تؤكّد على أهميةِ “حياديّة” الوظيفة العامة والنأي بها عن التجاذبات والمماحكات السياسية والحزبية والابتعاد بها عن العِرْقيّة والمَذهبيّة والعُنصريّة، كما تؤكّد المدونة على قِيَم الأخلاق والنزاهة والحدّ من الفساد أثناء ممارسة الوظيفة.
وتُبرِز المدونةُ أهميةَ الالتزام بمعايير الجدارة والكفاءة العلمية والعملية في التعيين للوظيفة العامة، كما تركِّز على تحديد التزامات المؤسسة تجاه الموظف، والتي تشمل الراتب المناسب والمكافآت والترقيات، وتوفير التأمين الصحي له ولأسرته، وضمان راتبٍ تقاعديّ مُجزٍ عند إحالة الموظف للمعاش صونًا لكرامته وإنسانيته.
ونجد العديد من الدول العربية أصدرت “مدونة السلوك الوظيفي” كترجمة نموذجية لبرامج الإصلاحات الإدارية التي تم تنفيذها في تلك الدول بالتعاون والتنسيق مع بعض المؤسسات الدولية، ومن تلك الدول، على سبيل المثال: مصر وتونس ولبنان والأردن والسعودية وغيرها، بل إنّ معظم تلك الدول صدَرَ فيها مدونة السلوك الوظيفي الخاصة بكلِّ وزارة وهيئة ومؤسسة، كما أنّ منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية تُصدِر مدونة السلوك الوظيفي الخاص بها، وتحدِّد فيها القِيمَ والمعايير الواجب الالتزام بها من المنظمة أو الموظف بغض النظر عن جنسيته أو عرقه أو لونه، وفي القطاع الخاص تصدر الشركات والمؤسسات مدونة السلوك الوظيفي في إطار عملها في المراكز الرئيسية لها أو في فروعها.
لكن للأسف الشديد، جاءت مدونة السلوك الوظيفي، الصادرة عن حكومة صنعاء، مخيِّبةً للآمال وتتناقض مع جوهر وأسس وقِيَم المدوّنات المتعارف عليها دوليًّا وإقليميًّا، بالرغم من أنّ معظم بنود المدوّنة منسوخة من نماذج لمدونات صادرة في بعض الدول العربية، فإنّ الإضافات عليها كشفت عن الغباء المركّب لمُعدّيها، وجهلهم بالدستور اليمني وقانون الخدمة المدنية ولائحته التنفيذية، وبالأسس والقواعد الناظمة للوظيفة العامة.
فالدستور اليمني ينصّ في المادة (28) على أنّ “الخدمة العامة تكليف وشرف للقائمين بها، ويستهدف الموظفون القائمون بها في أدائهم لأعمالهم المصلحةَ العامة وخدمة الشعب، ويحدِّد القانون شروط الخدمة العامة وحقوق وواجبات القائمين بها”، وتأكيدًا لذلك، ورد في قانون الخدمة المدنية رقم (19) لعام 1991 في المادة (12-أ)، أنّ “الوظيفة العامة تكليف، والإخلاص فيها واجب وطني تمليه المصلحة العامة، هدفها خدمة المواطنين بأمانة وشرف وتغليب الصالح العام على الصالح الخاص، تؤدَّى طبقًا للقانون والنُّظُم النافذة، وجميع الموظفين مواطنون تأتمنهم الدولة لتنفيذ هذا الهدف وتطبيق سياستها في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كلٌّ في موقعه”.
احتوت مدونة السلوك الوظيفي على بنود تنم عن جهل بحقائق اليمن الكبير والعميق والمتنوع في ثقافته ومذاهبه الدينية وأحزابه السياسية وقبائله ومجتمعاته المدنية، وعن عدم الوعي بأنّ الشعب اليمني وعبر القرون المتعاقبة، اتسمَ بالتسامح بين مذاهبه في أوساط السكان بالسواحل والسهول والجبال، فتلك البنود تمثّل توجُّهًاغير حكيم، وإذكاءً لنار التعصب، وإيقاظًا لفتنة نائمة، الكلُّ في غنى عنها، بل يجب على الجميع إنكارها ومحاربتها.
من هذا المنطلق، فالوظيفة العامة تكليف وشرف للموظف، وليس إجبارًا وإكراهًا له، كما أنّ الموظف العام يستهدف في عمله وأدائه الصالحَ العام وخدمة الناس، ولا مجال لتجيير عمله وأدائه لمصلحة طرف أو جهة خاصة أو حزب أو فئة معينة من المجتمع، وما جاء في مدونة السلوك الوظيفي حول المسؤوليات العامة للموظفين، وتحديدًا في المسؤوليات الشخصية، يفرض على الموظف العام “التزامات” غير واردة في الدستور أو القانون، وإنّما تعبّر عن مصلحة طرف أو شريحة معينة في المجتمع، وفي هذا مخالفة للدستور والقانون، وخرقًا لمبدأ الحيادية في الوظيفة العامة.
“ويلٌ للمطففين”
سردت المدونة في معظمها، المسؤوليات والواجبات والالتزامات المفروضة على الموظف العام، سواء كانت تجاه مؤسسته أو رؤسائه أو مرؤوسيه، إضافة إلى مسؤولياته الشخصية ومسؤولياته تجاه الوظيفة العامة ومسؤولياته تجاه المجتمع ومسؤولياته تجاه زملائه، كما أكّدت المدونة على مسؤوليات الموظف بشأن خصوصية سرية البيانات والوثائق والمستندات، وضوابط التعامل مع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وضوابط التعامل مع وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، كلُّ هذه المسؤوليات على الموظف العام شكّلت ثلث وثيقة المدونة، وجعلت العمل في الوظيفة العامة كالمشي على حد السيف، وسلبت منه الشعور بالأمان والرضى الوظيفي.
وفي المقابل، عندما استعرضت المدوّنة التزامات وحدات الخدمة العامة تجاه الموظفين، كان النص مائعًا ولم ينص صراحة على ضمان حقوق الموظف العام، المتمثلة بالراتب الشهري المجزي والمكافآت والترقيات والمعاش التقاعدي والتأمين الصحي، وغيرها من الحقوق التي تضمن للموظف حياة كريمة له ولأسرته، فقد جاء بالمدونة، أنّ التزامات وحدات الخدمة العامة تجاه الموظفين تقتصر على “توضيح الإجراءات والتعليمات المشتملة على حقوق الموظف، من حيث التدرج في السُّلَّم الوظيفي والرواتب والمكافآت ونظم الترفيعات والترقيات وسائر الحقوق المالية الأخرى كالتقاعد والتأمين الصحي”.
فالموظف العام ملزم ومسؤول عن العمل والأداء طوال الشهر والسنة، في مقابل التزام الوحدة التي يعمل بها، بأن تقوم كل شهر وكل سنة بـ”توضيح الإجراءات والتعليمات المشتملة على حقوق الموظف”! ومعنى ذلك، أنّه بنهاية كل شهر عندما يحين موعد الحصول على حقوق الموظف من مرتب أو مكافأة أو غيره، فإنّ التزام وحدة الخدمة العامة تجاهه يتمثّل في “توضيح الإجراءات والتعليمات”!
إنّ هذا، ورَبِّ الكعبة، تطفيفٌ ما بعده تطفيف، وهنا نستحضر قول المولى جلّ جلاله: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾ صدق الله العظيم.
واقع الموظف المنهك
يبدو أنّ من وضع المدوّنة نسيَ أو تناسى أنّ البلد يواجه حربًا مدمّرة وعبثية منذ ثماني سنوات، وتحت عنوان الحرب تخلّت سلطة صنعاء عن مسؤولياتها في صرف المرتبات الشهرية للموظفين في وحدات الخدمة العامة، واقتصر التزامها على دفع نصف راتب في أربع مناسبات دينية، ورغم ذلك ظل الموظفون في جميع مرافق الدولة يؤدُّون واجبهم بانتظام، كاظمين غيظهم ومعاناتهم، متنازلين عن مرتبات عشرة أشهر، والحصول على مرتبات شهرين فقط في السنة، لمواجهة نفقاتهم المعيشية من غذاء وكساء ودواء وسكن وغيرها من النفقات التي تحفظ كرامة الموظف وأسرته، كما أنّ الموظفين خلال سنوات الحرب حُرِموا من المكافآت والعلاوات والترقيات والبدلات، كما حُرِموا من حقّهم في التقاعد أو الحصول على مرتباتهم التقاعدية، وهناك قصص مؤلمة للآلاف من الموظفين المتضررين في كلِّ مؤسسات الدولة، وخاصةً في قطاع التعليم الجامعي والتعليم العام، والمؤسسات غير الإيرادية.
وكان الأجدر بمدونةٍ كهذه، أن تثمّنَ دورَ هؤلاء الموظفين، وتؤكّد في متنها على ضمان حقوقهم الضائعة وضرورة قيام حكومة صنعاء في معالجة أوضاعهم في إطار إدارتها للموارد العامة من تحصيل الضرائب والجمارك والزكاة والجبايات الأخرى، فبالرغم من عدم الإفصاح عن الموازنات الفصلية أو السنويّة، فإنَّ كلَّ الدلائل تشير إلى أنَّ تحصيلَ تلك الموارد والجبايات تضاعفت إلى أكثر من عشرة أضعاف مقارنة بما قبل الحرب. وشملت كل التجار والمزارعين وأصحاب العقارات، كبارهم وصغارهم، وحتى أصحاب البسطات والباعة المتجولين، وهو ما يؤكّد القدرة على صرف نصف راتب شهريًّا على الأقل لجميع موظفي الدولة، خاصةً أنّ حكومة صنعاء التابعة لـ”الحوثيين”، أعفت نفسها من الالتزام ببنود الإنفاق المهمة الأخرى، مثل دعم المشتقات النفطية، ودعم الكهرباء، والإنفاق الاستثماري على المشاريع التنموية، وغيرها من النفقات.
خطر التعصب
احتوت مدوّنة السلوك الوظيفي على بنود تنم عن جهل بحقائق اليمن الكبير والعميق والمتنوع في ثقافته ومذاهبه الدينية وأحزابه السياسية وقبائله ومجتمعاته المدنية، وعدم الوعي بأنّ الشعب اليمني وعبر القرون المتعاقبة، اتّسمَ بالتسامح بين مذاهبه في أوساط السكان بالسواحل والسهول والجبال، فتلك البنود تمثّل توجُّهًا غير حكيم، وإذكاءً لنار التعصب، وإيقاظًا لفتنة نائمة، الكلّ في غنى عنها، بل يجب على الجميع إنكارها ومحاربتها، فمبدأ تكافؤ الفرص بين فئات المجتمع كفله الدستور، إذ نص في مادته (24) على: “تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، وتصدر القوانين لتحقيق ذلك”.
فالوظيفة العامة مجال مفتوح لكلِّ شرائح وفئات المجتمع المؤهّلة والكفُؤة، ولا بدّ أن يتجسد ذلك في الأُطُر المرجعية للمدوّنة، وفي المبادئ الأساسية لأداء المسؤوليات، والعوامل التي تُعين على أدائها، إضافة إلى
المسؤوليات الشخصية للموظف العام في وحدة الخدمة العامة، وفي كلِّ مكوّنات المدوّنة، كما أنّ بنود المدونة يجب أن تكون شاملة وجامعة، يرى فيها كلُّ الموظفين في وحدات الخدمة العامة تعبيرًا عن ثقافتهم ونهجهم وتطلعاتهم قاطبة، حتى يتفاعلوا معها بإيجابية ويتطور أداؤهم لتحقيق الغايات المنشودة من المدونة.
وأخيرًا، التعهد
كلُّ الدول والمؤسسات العامة والخاصة التي أصدرت مدونة السلوك الوظيفي لها، لم تذيلها بنموذج لـ”تعهُّد” يوقع عليه الموظف العام ليكون وثيقة أساسية في ملفه الوظيفي! إنّ هذا الإجراء يحمل من الغرابة والتعجب الكثير، ويمكن الاستنتاج أنّ له دلالات عديدة، منها:
– أنّ المدوّنة في ضوء عدم الالتزام الصريح بحقوق الموظف من مرتبات ومكافآت وترقيات ومعاش تعاقدي وتأمين صحي وغيرها من الضمانات، تمثّل صيغة بدائية لـ”عقد السخرة” بين وحدة الخدمة العامة والموظّف العام يتضمن كل المسؤوليات التي تثقل كاهل الموظف دون وجود أي ضمانات لنيل حقوقه المشروعة.
– إنّ المدونة تمثّل إعلان “البيعة” والطاعة الكاملة من الموظف العام والعمل بكلّ تفانٍ وإخلاص، والصبر على مرارة العيش في الدنيا، طمعًا في الثواب والجزاء في نعيم الآخرة!
– إنّ المدونة وثيقة لـ”الغَبْن” و”عدم الإنصاف”، لمعظم شرائح وفئات المجتمع الممثلة في الموظفين العمومين، والذين لا يرون فيها تجسيدًا لنهجهم وتطلّعاتهم، ممّا يؤثّر سلبًا على شعورهم بالانتماء والإخلاص لوحدة الخدمة العامة العاملين فيها.
-
استاذ الاقتصاد، جامعة صنعاء