قراءة في قصيدة “لقد آنَ لِلرَّفضِ أَن يَستَعيدَ الــ رؤُوسَ” للشاعر الحمادي
1 min read
بن شويحة عبد الرحمن*
على إيقاع المتقارب يقيم يحيى الحمادي صرح شعريته العالي كاسرا رتابة هذا البحر الناتجة عن تكرار التفعيلة (فعولن) ثماني مرات, وهذا البحر في نظر الكثيرين أنه بحر سهل في الكتابة الشعرية إلا أنه على عكس ذلك تماما فهو بحر يجعل الكاتب عليه يقع في فخ النظمية وإن حاول الشعر, وهنا يظهر الشاعر الحقيقي في إخراج هذا البحر من رتابته التي تذهب برونق الشعر.
يقول الحمادي مستهلا قصيدته :
لقد آنَ لِلرَّفضِ أَن يَستَعيدَ الـ
رؤُوسَ التي صار فيها دخِيلا!
إنها رؤوس ألفت الإذعان لدرجة صار الرفض فيها دخيلا والمفارقة أن الرفض هو من سيستعيد الرؤوس وليست هي من تستعيده، هذا لأنها ميؤوس منها فتصبح الرؤوس مطلوبة لا طالبة في كسر تام للصورة النمطية.
وأَن يَستعيد القراراتِ، لا أَن
يُعِيدَ المَراراتِ جِيلًا فَجيلا
وهذ البيت متعلق بجملة (لقد آن للرفض) واستعادة القرارات قائم على مبدأ الرفض , يقيم الحمادي توازيا موسيقيا بين (القرارات والمرارات) فهو اتفاق في البنية الصرفية والصوتية وتعارض في الدلالة .
يواصل الحمادي في التمسك بمبدأ الرفض حين يقول:
حَرِيٌّ بِمَن قال (لا) أَن تَمِيلَ الـ
سماواتُ والأَرضُ، لا أن يَمِيلا
هنا تكون المبالغة بلاغة في بناء المعنى , فالرافض يبقى على موقفه وإن مالت السماوات والأرض .
تَحَـرَّك.. فَما أَنتَ إِلَّا جِبالٌ
مِن النَّارِ ، مَخلُوقةٌ كي تَسِيلا
يشير الحمادي إلى البركان دون ذكره مستعينا به كمعامل موضوعي للرافض قوانين الأرض
عمل الفعل (تحرك ) فعله في تفجير هذه الصورة , كما استند الشاعر إلى الواحد المتعدد في قوله (فما أنت إلا جبال) وهي جبال مخلوقه من النار وهنا إشارة واضحة إلى البركان وتتجلى بوضوح في قوله كي تسيلا
فالانسان مخلوق للتحرك والجبال البركانية مخلوقة كي تسيل , مصداقا لقوله تعالى(فاسعوا في مناكبها) , سيقول قائل لماذا قال تحرك فأنت جبال وهي صفتها الوجود فنقول مصداقا لقوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) مستعينا بالنص القرآني في تثبيت ثنائية الحركة والجمود .
تَحَرَّك.. فإنَّ المَسَافاتِ تَزدَا
دُ طُولًا إِذا نِمتَ عَنها طَويلا
كرر الحمادي الفعل (تحرك) والحركة عكس السكون والركود وهذه إشارة للثورة والرفض في دعمه للصورة السابقة, وهنا ذكر الفعل (نمت)مشيرا به للسكون وهنا اشتغال اشتقاقي خادم للمعنى في لفظتي (طولا. طويلا) طولا كصفة للمسافات و طويلا كصفة للنوم.
إِذا أَنتَ لم تَرتَحِل بِالبِلادِ الـ
ـتي فِيكَ.. زادَتكَ عَنها رَحيلا
يعطي الحمادي نتيجة الركود(لم ترتحل) في قوله(زادتك عنها رحيلا)
مستعملا الفعل ومصدره في بناء الصورة بلغة درامية حركية غاية في الشعرية.
أَزِح عَن ذِراعَيكَ هذي المَوَاوِيـ
ـلَ.. قُل لِلمُعاناةِ قَولًا ثَقِيلا
يعود الحمادي لفعل الأمر في قوله (أزح) وأتى بالمواويل هنا إشارة للتكرار أي دعك من اليأس والشكوى وقل للمعاناة قولا ثقيلا
هنا أنسن الحمادي المعاناة وطلب محاورتها, ما يقابل إزاحة المواويل هو أن تقول للمأساة قولا ثقيلا استحضارا للنص القرآني في قوله تعالى (سنلقي عليك قولا ثقيلا
ولا تَترُكِ اليَأسَ يَستَعبد النَّفـ
ـسَ.. لا تَخفضِ الرأسَ حتى قَتِيلا
ينتقل الحمادي من الأمر إلى النهي في مواصلته بناء الصورة الرافضة للواقع في جمل شعرية مسجوعة
ولا تترك اليأسَ
يستعبد النفسَ
لاتخفض الرأسَ
تكرر هذه اللام الناهية هو في حد ذاته رفض وتكرار السين منح للبيت موسيقي تخاطب النفس والعقل في آن , كما استعمل الحذف في (حتى قتيلا) التي أصلها حتى إن كنت قتيلا وكان الحذف هنا بلاغيا.
فَمَا زالَ في آخِرِ الكَأسِ ما سَو
ف يُرضِي الضَّحايا ويشفِي الغلِيلا
هو كأس الموت الذي نتجرعه مرارا
لكن كيف للموت أن يرضي الضحايا ويشفي الغليلا
غليل الأحياء أو الموتى
ولا تَعتَـدِ البُؤسَ.. ما البُؤسُ إِلّا
عِقابٌ لِمَن يُخطِئونَ السَّبيلا
إن اعتياد البؤس هو عقاب لمن أخطؤوا السبيل فعلى الانسان أن يتحرر من بؤسه وهنا رفض للبؤس بوصفه عقابا, كما يقول أحد الفلاسفة (إن كثرة النظر للبؤس تقسي القلوب)
وقَلِّب يَدَ الشَّكِّ، حتى إذا ما
تَيَقَّنتَ.. كُن أَنتَ أنتَ الدَّليلا
يشتغل الحمادي على التقابلات الضدية في رسم صوره الشعرية
(وقلب يد الشك )وهنا هدم للشك لبناء اليقين وذلك في قوله تيقنت كن أنت أنت الدليلا , ويد الشك صورة استعارية غاية الجمال وكأن الشك له ظاهر وباطن شأنه شأن اليد .
ولا تَمنَحِ النَّاسَ إلّا مَزيدًا
مِن الحُبِّ.. إِن شِئتَ مِنهُ القَليلا
مهما كثر منك العطاء في الحب لن تجني سوى القليل فامنح المزيد لتجني القليل فليس على قدر العطاء يكون الجزاء.
وإن شِئتَ أَن تَجعَلَ المُستحِيلَ
مُتاحًا.. فَلا تَدعُـــهُ مُستَحِيلا
رفض تسمية المستحيل مستحيلا يجعله متاحا وممكن التحقيق , اشتغل الحمادي على فلسفة الهدم والبناء , فهو يهدم صورة المستحيل ليحوله إلى ممكن وهذا الأمر فكري نفسي (فلا تدعه مستحيلا)
حتى التدوير الذي اعتمد عليه الحمادي في أبيات القصيدة ناتج عن الرفض وكسر رتابة إيقاع بحر (المتقارب) فالشعراء عادة مايقعون في رتابته , إلا أن هذه الذات الشاعرة المتمردة لا ترضى بالاعتيادي والمألوف وإنما تجنح للبناء من خلال الهدم , ونجد هذه الفلسفة في جل أبيات القصيدة محققا بذلك شعرية الرفض.
