تكنولوجيا اليوم هي فعالية حضارية لم يتعلم البشر كيف يعيشونها قبلاً، وحتى يتحقق تعلمهم لكيفية عيش هذه الفعالية، ستسقط أدبيات كثيرة في طريق البشرية الذي ستمضي فيه حتى تتكيف مع المعطيات الحضارية الجديدة. ومن تلك الأدبيات درس الإنسانية وقيمها التي ألفيناها على الدوام وهي تنتقل من جيل إلى جيل ومن حضارة إلى حضارة عبر تلك التراكمات الفنية والثقافية والأدبية ومنذ فجر الإنسانية الأول في هذا التاريخ العظيم للبشر.
إن الدعوة إلى أنسنة التكنولوجيا هي السبيل الوحيد للخروج من أزمة الشكل والمفاهيم ذات القطب الأحادي والتي تتسيد العالم بدون أي اعتبار لثنائية الشكل والمضمون التي ظلت منذ خلق الكون ناموساً يضبط إيقاعه وتتزن خطى الكائنات عليه.
ولعل الإشكالية الحقيقية كما يبدو ليست في شكلانية التكنولوجيا وتسيد القطب الأحادي لها ولكن في سحب هذه الأحادية الثقافية واسقاطها على مكونات ثقافية أخرى للإنسانية بما فيها الكائن البشري نفسه ذو الطبيعة الثنائية (الذكر والأنثى) التي لا ثالث لها ولا أحادية لأحد الثنائيتين فيها؛ لإن في ذلك تشويه للناموس الكوني الذي تمأسس الخلق على حيثياته.
إن أنسنة التكنولوجيا تبدأ من حيث احتواء معطيات التكنولوجيا ومنتجاتها للقيم بمختلف أنواعها، فامتلاك ثقافة القيم يسبق امتلاك الأدوات واجادة استخدامها بل وهو أهم منها لأن ثقافة القيم تعني معرفة المعاني التي تمأسس عليها الخلق البشري وأما امتلاك الأدوات فلا يتجاوز المعرفة السطحية والشكلانية لها.
مثلا، ما جدوى إجادة استخدام أدوات التصوير كاميرات وبرامج مونتاج وجرافيكس ونحن لا نفقه شيئا في ثقافة القيم إذ أن ذلك لن يجعلنا ننتج سوى مواد محدودة الأثر قصيرة الأجل لا قيمة ولا معنى يمكن ايجاده فيها إطلاقا. وعندما تملك ثقافة القيمة فأنت تعرف حينها ماذا تريد من التكنولوجيا أن تفعل وماذا تريد من كاميرتك أن تصور وستعرف كذلك لماذا ستصور وما الذي يمكن أن تصنعه لقطتك؟.
وهذه الأمثلة والتساؤلات هي ذاتها ما ينطبق على كل أشكال وأدوات التكنولوجيا من حواسيب وآلات وغيرها وكل من يجيدون استخدامها..
إن الحضارة الإنسانية والمجتمعات البشرية لم يكن لها أن تستمر حتى اليوم لولا تراكمات القيمة الاخلاقية والإنسانية والاجتماعية التي نجدها في تراكماتها المعرفية وارثها الثقافي والفني، وأما القوالب والأدوات فلم يكن من الصعب إيجاد من يمتلك زمامها في كل عصر، وأما أن يكتب للحضارة البشرية البقاء في ظل غياب القيمة الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية من نتاجه المعرفي والثقافي فلعل هذا ما يحتاج بالفعل إلى معجزة نبي، وإمكانيات السحرة.
اخيرا يمكن القول أن تلك القيم هي ما يجب أن يسبق تعليمه والتدريب عليه التدريب على استخدام أدوات ووسائل التكنولوجيا وتعليمها للتلاميذ، أو فليكن نصيبها نصيب الأسد من العملية التعليمية والتدريبية.