أيها الأصدقاء لنضع الأسماء والألقاب والرتب الشعرية جانبا ولنتحدث بصدق دون وصاية أو أستاذية في موضوع نعرفه كلنا لكننا نتجنب الخوض فيه بجدية لتغيير واقعنا الإبداعي.
..
كلكم تعرفون أن التاريخ غربال جيد للمواهب، فلم تصرون على عنترياتكم الفارغة في جعل آرائكم هي الحقيقة المطلقة وما دونها باطل وعبث؟.
..
ما أؤمن به وأراه يتكرر يوميا من مجازر شعرية باسم التجديد الكاذب يجعلني أفقد بعض الأمل في استصلاحنا لأراض قديمة أو احتلالنا لأراض جديدة في عالم الإبداع.
فلا من يكتبون بنمطية القديم أو من يكتبون بنمطية الجديد متورعون عن الاعتراف بأن ما يكتبونه ليس نابعا من منظورهم الخاص.. إنما اقتداء ممقوت بالسلف والخلف الشعري على حد سواء.
..
الأمر في رتابة النمط القديم مفهوم لأن طول استهلاك النمط القديم جعله مكشوفا وغير مفاجئ أمام القارئ لكن عبارات في مطلع القصائد مثل ( العابرون ، السائرون ، الذاهبون) أو في منتصفها مثل ( عكازة المعنى ، ريح المجاز ، فرشاة المدى ، جبة الحلاج، جب يوسف) أو في ختامها مثل ( توابيت الرؤى ، طواحين القدر ، إغماءة الكون) أصبحت ثيمة متكررة بشكل مزعج يحسبه أصحابه تأشيرة عبور مبهرة لقلب القارئ أو استغفالا لمداركه متناسين ذكاءه ووعيه بهذه الأساليب الغبية تماما إذ هي لا تعدو أن تكون صورا مبهرة وأضواء خاطفة في بداياتها لشعراء عرفوا بها ثم انحاز إليها شعراء آخرون بعدهم كسلا منهم في إيجاد أصواتهم وأضوائهم الخاصة.
ويكاد يجمع النقاد والمتعمقون في الشعر وحتى القراء المتذوقون أن إستعمال المجاز مطلوب لكونه مكونا أساسيا في اشتغالات القصيدة القديمة او المعاصرة وهو مغامرة محبذّة ولكن الإغراق فيه دون إعطاء مفاتيح دالة على سياقاته هو ضعف عن توليد الصور والمعاني أو الغوص في أعماق النفس البشرية أو حتى هدم قناعات أو بناء رؤى متماسكة ومتكاملة.
فقد تقرأ خمسين قصيدة في اليوم لخمسين كاتبٍ ( حتى لا أقول شاعرا) تشترك في هذه القوالب الجاهزة بها أطنان من المجازات الفارغة التي لا تجد بها معنى ممتلئا وإن صادفت بعض النصوص الجيدة لنسبتها إلى أساليب معينة لشعراء معروفين وكتابتها صراحة لا تأخذ وقتا طويلا على أي شاعر متمرس متمكن من التحوير ورسكلة الأفكار والعبارات وتمويه الأساليب فهي في النهاية مكياج غير بريء لنصوص قبيحة في أصلها.
..
هذا الخطر الداهم الذي تلبس طريقة كتاباتنا العربية سببه العولمة و ثقافة الترند التي رسختها وسائل التواصل الاجتماعي وتتبع السائد لكسب استعطاف الجمهور بل وحتى أغلب المسابقات المكرسة _ التي لا بد من وجودها_ أو الوصول إلى الشهرة بأقل كلفة ممكنة دون محاولة رفع مستوى وذوق القارئ ومحاولة تحدي الأنا بإحالتها إلى إمكانات أخرى في مستويات الكتابة دون قراءة أو مطالعة واعية أو احتكاك بتجارب عميقة سابقة ، فبدل أن يكون المبدع قائدا يرسم لقرائه خارطة الطريق وأن تكون كتاباته بوصلة للوعي ومحاولة توسيع زوايا النظر أصبح خاضعا لما يطلبه المستمعون من عوام أو نخب بل ومتفاعلا معهم في دفاع تام عن نصه أو انتفاخ بوهم زائف تفرضه ثقافة المجاملات والمظاهر الكاذبة دون رقابة ذاتية صارمة منه على مآلات تجربته ومحاولة تدارك نقائصها وتعزيز نقاط قوتها.. أو مراعاة لأهمية إختلاف التجارب كأطباق متعددة لكل منها دوره في تشكيل أذواق القصيدة العربية.
فتخيل أن تعبر خارطة الوطن العربي في تحريكات معدودة لإبهامك على شاشة الهاتف في هذا العالم الأزرق أو تحضر ملتقى وازنا تستمع فيه لأكثر من عشرين نصا مثلا لتجد نمطا كتابيا واحدا يغرق فيه أغلب الكتاب خوفا من عدم تصفيق وتطبيل الجمهور ومغايرة المألوف.
ألا يوقعك هذا في خيبة أمل كبيرة في تذوق طبق واحد سائد مع إمكانية حرمانك من أطباق أخرى كان مقدرا لها أن تكون أشهى لو وجدت طباخين محترفين فقط !
..
ختاما أقول لست وصيا على الشعر ولست مختصا في النقد الأكاديمي إنما هي زفرة سالك في طريق الشعر يرى أن الشعر غاية في نفسه وليس وسيلة لبلوغ غايات عاجلة والاستيقان من الوصول إلى شواطئه الحقيقية هو مجرد يقين عبثي ينبي بموت تجربة صاحبه فربما في قرن واحد قد تجد شعراء قلة سيذكرهم التاريخ بأصواتهم الخاصة فقط
إذن فليعجن كل واحد منكم طينه ويتركه على نار هادئة ولينتظر ما ستعطيه نار القصيدة الدافئة من اشتغالات ووعي ينتج بهما أنواعا جيدة بدل أن يستهلك طين غيره الذي سينكسر وينكشف زيفه في أوائل محاولات بيعه للمستهلكين الحذّاق حتى قبل استعماله وليتوقف عن مهاجمة المختلفين عنه بحجة أن سلعهم غير رائجة في السوق فهذه النظرة الأحادية ليست محمودة العواقب على مستقبل الشعر
ولا يمكنني تذكيركم أيضا إلا أن التنوع ثراء وليس فناء وبما أنكم تعيبون على المقلدين القدامى كسلهم وجبنهم في المغامرة فأنتم أيضا حاولوا أن تكونوا شجعانا في خوض مغامرة القصيدة الحلم دون تقليد لأنماط سائدة و انشدوا التنويع في أوجه القصيدة كي لا يكون مصيركم الفناء!