كتاب ومثقفو فرنسا يحذرون من التدني اللغوي لدى “جيل الشاشة”
1 min read
عن كثب/.. طالب عدد من الكتاب والفلاسفة والمثقفين والفنانين والناشرين الفرنسيين، وزارة التربية بالشروع في عملية إصلاح شاملة لمناهج التعليم الابتدائية والتكميلية والثانوية المتبعة في المدارس الفرنسية في ما يتعلق بمستوى مهارات الكتابة والقراءة والتواصل اللغوي لدى معظم التلامذة الذين تتراوح أعمارهم بين سبعة و10 أعوام، ولدى المراهقين في المرحلة التكميلية والثانوية، منذ دخول الهواتف المحمولة وملحقاتها من أجهزة لوحية وقارئات إلكترونية وشاشات وكاميرات رقمية في فضاء الحياة اليومية.
وفي بيان موجه إلى وزير التربية الوطنية الفرنسي، نشر في صحيفة “لوموند” مؤخراً، انطلق الموقعون من ملاحظة تقول إن نسبة مرتفعة من التلامذة لم تعد تقرأ، وإن معظمهم يجدون صعوبة كبيرة في القراءة والكتابة، وصعوبة أكبر في التعبير عن أفكارهم وفق أبسط قواعد المنطق. هؤلاء التلامذة الذي يطلق عليهم البيان اسم “جيل الشاشة”، غير متمكنين بمعظمهم من الأداء اللغوي بشكليه الشفوي والكتابي. فهم أولاً غير قادرين على الاستماع بانتباه، وهم ثانياً غير قادرين على المحادثة، وهم ثالثاً غير قادرين على القراءة والكتابة في اقتران غير مسبوق بين ثلاث ظواهر كبرى، يبدو أن آثارها ستكون كارثية في السنوات المقبلة. أولى هذه الظواهر تراجع المستوى المدرسي في اكتساب مهارات القراءة والكتابة في مقابل زيادة القدرة المطلقة للشاشات في قولبة العقول التي حذر منها المعلمون وأخصائيو التربية، دون أن ننسى التطور الهائل للذكاء الاصطناعي الذي يلوح بقدرته على التفكير قريباً نيابةً عن الإنسان.
لا لغة ولا تعبير
لم يتوقف البيان أمام الصعوبات الإملائية التي بلغت مستوىً كارثياً بيّن عجز التلامذة عن كتابة نص خال من الأخطاء اللغوية يعبرون فيه بوضوح عن أفكارهم في عمل مكتوب مرتب الأفكار يراعي الحد الأدنى من قواعد اللغة، بل أشار بوضوح إلى أن موضوعات التعبير الكتابي لم تعد تحظى بالتقدير الكافي في المرحلة الابتدائية، وهي المكان الذي يتم فيه وضع الأسس التي تقوم عليها العملية التربوية برمتها وعلى رأسها خلق الرغبة بالتعلم والسعي وراء المعرفة والتربية المواطنية. وإذ أشاد البيان بالجهد الذي يبذله المعلمون، الذين يمارسون واحدة من أكثر المهن أهمية في العالم، لمسها عصب المجتمع الحيوي، عنيت شاباته وشبانه، طالب الموقعون وزير التربية بضرورة تقليل عدد التلامذة في الفصل الواحد. فعدا عن كثافة المناهج وثقل مضامينها، فإن الحجم الكبير للفصل الواحد يعني عدم قدرة المعلمين الاهتمام بشكل صحيح بكل التلامذة، الذين يتخطى عددهم في المرحلة الابتدائية خمسة وعشرين تلميذاً، وأكثر من ثلاثين في المرحلة الثانوية في كل فصل، لافتين النظر إلى أن خفض حجم الفصل يتيح بيئة تعليمية أكثر جودة ويؤدي إلى أن يكون التدريس أكثر فاعلية، ما يعني زيادة في التعلم وتحسين الأداء والتنبه إلى الاضطرابات التعليمية كمشكلات الانتباه، أو الذاكرة وعسر الكتابة لدى المتعلم. ذلك أن ما يمكن إنجازه في مجموعات صغيرة، عندما تكون المستويات والمهارات غير متجانسة، لا يمكن إنجازه في مجموعات كبيرة.
وأشار البيان إلى أن تعلم الكتابة هو مرادف لتعلم التفكير والتحرر والقدرة على النقد وعلى التواصل مع النفس ومع الآخرين من خلال الكلمات، بما هي وسيلة أولى للتعبير والتفكر والتواصل، التي تذكرنا جاكلين دو روميي أنها “حصننا ضد البهيمية”. فعندما لا يستطيع الإنسان التعبير بدقة عن نفسه، يتعامل حصراً مع التقريبات الغامضة، هناك فقط يكون بحسبها “العنف الأعمى”. وهذا ما بدأت تباشيره تلوح في أفق المجتمع الفرنسي، وغيره من المجتمعات في العالم.
ويضيف البيان أن معرفة الكتابة لا تعني تجميع الجمل، بل إضفاء معنى على ما نكتبه. وهذا بالضبط ما يسعى إليه كل واحد منا، لا سيما الأطفال والمراهقين، الذين تتجاذبهم أفكار متعددة ومتناقضة في عالم افتراضي متقلب. وإذ تساءل الموقعون عن تبعات تقويض هذه المفاهيم الأساسية في حياة كل إنسان وفي كل مجتمع وحضارة، أشاروا إلى القلق الشديد الذي ينتابهم جراء تصاعد حدة العنف والانقسامات الاجتماعية والتطرف الديني التي تهدد المجتمعات كافة والتي تتغذى بالتأكيد من غياب الكلمات والفكر. وتابعوا قائلين إن من واجبهم الأخلاقي ترك عالم صالح للجيل الجديد، وتزويده بالأسس والمهارات الفكرية الضرورية لمواجهة الحياة وتحدياتها، بدلاً من تركه يضيع خلف الشاشات التي يجب أن يتعلم كيفية استخدامها بوعي كاف.
ولئن دق هذا البيان ناقوس خطر انهيار التعليم، طالب بضرورة إعادة الاعتبار للقراءة والكتابة منذ المرحلة الابتدائية، وهي من المهارات الأساسية التي تساعد التلميذ على التعلم في مراحله الأولى، إذ تؤدي الصعوبات في القراءة مثلاً إلى فشل المتعلم في المواد الأخرى، وتكريس حصص إلزامية يومياً للكتابة الإبداعية أو التعبير الحر، ككتابة رسالة أو قصة خيالية علمية، أو خطاب، أو مقالة صحافية، أو مسرحية أو مسلسل تلفزيوني أو إذاعي، إلخ.، وإضفاء جو من المتعة لعملية التعلم، عبر استضافة فنانين وممثلين ورجال إعلام وصحافة وفلاسفة لدعم المعلمين ومساعدتهم في تطوير الفكر النقدي لدى المتعلمين. ولم ينس الموقعون الحديث عن ضرورة زيادة الموارد المالية المخصصة للتعليم بوصفه أولوية مطلقة، ذلك أن تلامذة اليوم هم قادة الغد، وأفراد مجتمعه، وصناع قراره، وأبطاله.
المعاناة الجديدة
يلفتنا هذا البيان وتلفتنا أفكاره التي تتناول حال الأدب والقراءة والكتابة والفكر النقدي في البرامج الدراسية، وهو وضع يتجاوز فرنسا، ليشمل دولاً عديدة، لا سيما البلاد العربية. وهو يذهب، لحسن الحظ، أبعد من التوصيف الدقيق، إلى تحديد العلاج أو الإشارة إلى بعض مسالكه. وأول ما ينبه إليه هو أن التربية ليست مختزلة بالمدرسة والمعلمين ووزارة التربية، بل هي انعكاس للعلاقة بين السلطة السياسية والتربويين، وهي وليدة حركة المجتمع وظروفه.
وهذا بالتحديد ما تفتقده معظم بلادنا العربية في رؤيتها لاستراتيجية تربوية واضحة تكترث لمكتسبات خريجي المدارس، الذين يعانون في غالبيتهم من ضعف في إتقان اللغة الأم واللغات الأجنبية والقدرة على القراءة والكتابة، التي تحولت في معظم الأحيان على منصات التواصل الاجتماعي إلى لغة هجينة، غير مفهومة وإلى تقلص مفرداتها في ابتعاد عن الكتب والمواد الأدبية والعلوم الإنسانية التي ينظر إليها بازدراء وسط هجمة التكنولوجيا وشاشاتها الشرسة. بدأت إذاً تلوح في الأفق صورة قاتمة لمستقبل التعليم وترنحه في غياب قدرة التلامذة على التفكير النقدي، لا بل على تجنبه، وغياب فهمهم لقضايا عصرهم وعدم اهتمامهم بما يحصل من حولهم، وانهمامهم حتى الإدمان بشاشات هواتفهم الذكية ومنصاتها وصورها الإلكترونية، في مقابل حرص القيمين على التربية على تخفيف المناهج والتشديد على العلوم البحتة وتهميش إتقان القراءة والكتابة والآداب والإنسانيات وتغييب تعلم النظر إلى الوجود والعالم والكون ومكان الإنسان فيه.