عن كثب/.. لقب بفنان الثورة المصرية، ولكن المطرب الراحل عبدالحليم حافظ ( 1929-1977)، تغنى أيضا دعما لعدد من الثورات العربية، كما كان الحال مع ثورة الجزائر ونظيرتها في اليمن، تلك التي كلف العندليب من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ( 1918- 1970) في أبريل عام 1967 بزيارة الوحدات العسكرية المرابطة هناك، وإقامة حفلات غنائية في مواقعها ومع الجنود اليمنيين لدعمهم معنويا. وخصص ناصر الطيار المصري حنفي محجوب لمرافقة العندليب في مهمته.
ويروى اليمنى أمين درهم، في كتابه «محطات فنية» الصادر قريبا، لتوثيق علاقاته المتشعبة مع أهل الثقافة والفن في مصر والعالم العربي، أن اليمن كانت تعيش وقتها الأعوام الخمسة الأولى من عمر النظام الجمهوري الذى قام في 26 سبتمبر 1962، حيث كانت الثورة في اليمن بدعم من مصر وزعيمها عبدالناصر، الذى قدم لليمن ورئيسها وقتها المشير عبد الله السلال ( 1917- 1994) دعما عسكريا وإداريا.
فوق الجبل أفراح
ويشير درهم إلى شكل آخر من أشكال الدعم المصري، وهو الدعم المعنوي كما كانت مثالا لها زيارة العندليب، موضحا أن عبدالحليم حافظ كان يلتزم بارتداء الملابس العسكرية خلال جولاته بمواقع القوات اليمنية والمصرية. وكان يغنى لهم مزيجا من الأغاني الوطنية الحماسية وغيرها العاطفية واسعة الشهرة، مثل: «يا أهلاً بالمعارك»، و«صورة»، و«سواح»، و«على حسب وداد قلبي يابوي». تضاف إلى ذلك أغنيات شدا بها العندليب خصيصا من أجل القضية اليمنية، مثل الأغنية التي أنشدها خصيصا من أجل ثورة سبتمبر، وتقول أبياتها:
فوق الجبل أفراح.. تحت الجبل زغاريد
طايرة على صنعاء.. صاعدة على صعدة
شعب اليمن ياخال.. صبح في عهد جديد
وتضم أيضا أغاني العندليب اليمنية، أغنية «يا حبايب بالسلامة»، والتي تحوى ترحيبا بعودة قوات مصرية، بعد مشاركتها في مساندة ثوّار اليمن. والأغنية من كلمات حسين السيد، وألحان الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب. ويقول مطلع الأغنية:
يا حبايب بالسلامة رحتم .. ورجعتم لنا بألف سلامة
رحلة نصر جميلة.. مشوار كله بطولة
خطوة عزم نبيلة.. لسنين جاية طويلة
كما تضمنت زيارة العندليب لقاء بالأبطال الجرحى من المصريين واليمنيين في مستشفى القوات المسلحة بمدينة «تعز»، الواقعة في جنوب اليمن. ورفض العندليب، وفقا لرواية درهم، تقاضى أي بدل سفر، أو مقابل مادى عن حفلاته باليمن.
ويروى درهم عن موقف جمعه مباشرة مع العندليب أثناء زيارته مدينة «الحديدة» في ختام جولته باليمن. فيقول: «ذات يوم وأنا في معرضي للبضائع، فإذا بي ألمح صديقي الطيار حنفي محجوب يقترب برفقة شاب وسيم يشبه الفنان عبدالحليم حافظ، لأكتشف لاحقا أنه هو فعلا العندليب. وبعد التعارف، دعوت عبدالحليم وصديقه لتناول وجبة بحرية (حديدية تعزية)- نسبة إلى مدينتي الحديدة وتعز. وبعد العشاء، طلبت من العندليب إسعادنا بالغناء، فاستجاب، وكانت ليلة تاريخية بالنسبة لي أن يغنى العندليب بمنزلي.
ويكمل درهم مشيرا إلى ما كان من زيارته لمصر في أغسطس 1967، ليتواصل هاتفيا مع العندليب.
العندليب.. صحفي قدير
وقد وثق العندليب بنفسه زيارته اليمن في تحقيق صحفي نشره بمجلة «الكواكب»، وكان عنوانه: «وقفت أغنى تحت المطر في اليمن»، وقال في مقدمته: «سبعة أيام عشتها في اليمن لأول مرة في حياتي، بين أولاد بلدي في مواقعهم فوق قمم الجبال، وعلى مشارف الوديان في صنعاء والحديدة، رأيت إخوتي اليمنيين يخرجون من عصور التخلف، ويعيدون صنع الحياة على أرضهم، ويحاولون اللحاق بانطلاقة البشرية وتقدمها».
ويضيف : «ربما كنت أتفهم الدور السياسي لوجودهم في اليمن قبل نزولي مطار صنعاء، ولكن الدور الإنساني لهم لا يمكن أن يحس به أحد إلا إذا ذهب إليهم وشاهد على الطبيعة ما يقومون به من جهد البناء والتعمير. وقد تجولت خلال هذه الفترة القصيرة بين صنعاء والحديدة وتعز ومراكز التجمع، ورأيتهم يشاركون في إقامة المستشفيات والمدارس وفى زراعة الأراضي، ورصف الطرق بسواعدهم السمراء وإيمانهم العميق. وحينما سألت أحد الجنود عن معنى وجوده في اليمن.. ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، فرد على وهو يشير إلى مجموعة من الأطفال اليمنيين.. من أجل هؤلاء ومن أجل مستقبلهم. أتصورهم أطفالي في القرية، وأدرك معنى الثورة لإنقاذهم من مصير الفناء».
ويكمل عبدالحليم الذى تقمص دور الصحفي المحقق : «شعرت بمدى فهم الجنود المصريين مهمتهم، فدمعت عيناي عندما سمعت أفكارهم ونسيت نفسى، ووقفت أغنى لهم تحت الأمطار ووسط العواصف، لدرجة أنني لم أشعر بالتعب، وإنما كنت أريد أن أشارك ولو بجهد صغير في دورهم الإنساني الكبير، فكنت أخرج من معسكر لآخر، وأغنى في أي مكان دون فرقة موسيقية، كنت أريد أن أغنى وأبذل أقصى جهد لأسعدهم، وكى أجعلهم يشعرون بأن القاهرة لا تنساهم رغم البعد». وأضاف أن: «الواقع الذى أؤكده من خلال مشاهداتي في جولتي أنه لا توجد أي معارك أو عمليات عسكرية في اليمن، وأن جنودنا يشعرون كما لو كانوا في الإسماعيلية أو سيناء أو الصحراء الغربية، ويشعرون بأنهم بين عشيرتهم وذويهم، كما لاحظت ملامح الدور الإنساني لرجالنا، من خلال المنشآت التي ترتفع في صنعاء والحديدة والمدارس والمستشفيات والمباني الحديثة والمحلات التجارية، والشوارع المرصوفة والأضواء الكهربائية».