د. إنتصار البناء
صناعة عناوين الروايات مهارة لا تقل إبداعًا عن مهارة صياغتها. ولكن قليلا من الروايات هي التي تصير عناوينها أبوابا للدهشة تقود إلى ممرات، داخل الرواية، لا تقل إدهاشا.
تنتمي رواية “هيا نشتر شاعرا” لمؤلفها الروائي البرتغالي أفونسو كروش إلى تيار روايات الواقعية السحرية. وهي روايات واقعية شديدة الواقعية ليس لمضمونها علاقة بالعجائبية والغرائبية ولا الفانتازيا. لأنها نتاج البنى الثقافية والاجتماعية شديدة التماس بحياة الناس، وليست مزيجا من الأحلام والهلوسات ولا يتخللها عوالم الجن والأساطير والسحرة. من أين يأتِ السحرُ إذن؟ إنه السؤال الذي تحاول أغلب الدراسات النقدية الإجابة عنه. وتعمل أغلب عمليات تشريح النصوص المنتمية لهذا التيار الكشف عن مظاهره.
وهي لست بالإجابة السهلة. إذ إن مبدعي هذا التيار من الروايات قد أثبتوا براعة كبيرة في تجديد أدواتهم الفنية، وابتكار أشكال نصوصهم، وتنويع صياغات أفكارهم الواقعية في تمظهرات فنية فريدة في كل مرة. ولسبر أسرار “الواقعية السحرية” في كل نص أدبي علينا الكشف عن مقومات طرفي المجال الروائي (الواقعية) و (السحرية) للوصول إلى قراءة متوائمة مع خصوصيات هذا التيار من الروايات، وعن دلالة كل عمل روائي “واقعي سحري”.
في رواية “هيا نشتر شاعرا” تكمن الواقعية في مضمون الرواية الذي يناقش الاتجاه المادي والحياة الاستهلاكية التي صارت نمطا اجتماعيا وثقافيا مميزا للعصر. والشريحة الاجتماعية التي تمثلها الرواية غير منسَّبة إلى بيئة اجتماعية معينة أو طبقة اجتماعية في ذاتها. إنه مجتمع غير معرف بدولة أو ثقافة إثنية محددة. غير أنه مجتمع ممثَّل لنموذج ثقافي واقعي يوجد بين كل الشعوب. ويزيد من تعمية تنسيب مجتمع الرواية أن أي من شخصياتها لا تحمل اسما طبيعيا، ولكن الشخصيات تُعرف بالأرقام أو بالأدوار الاجتماعية مثل (الأخ، الأب، الأم). كما أن السارد لم يقدم أوصافا خارجية للشخصيات إلا في الإطار (الكاريكاتيري)، مثل وصف شكل الشاعر ” أعجبني واحد، كان أحنف وأحدب قليلا ولكن له انحناءة ممدودة. يرتدي سترة مزرعة”،
ووصف شكل الأخ ” أخي سخيف بدرجة فظيعة. يلبس حذاء قياس أربعة وأربعين، ولديه فقاعات يتراوح عددها بين الثلاثين الأربعين على وجنة كل خد “، ووصف حركة شعر رأس الأب الذي يغطي صلعته بمده من يسار رأسه إلى يمينه، ولم يهتم بتقديم أي تحليل سيكيولوجي لأي من الشخصيات. ولذلك فقد بدت الشخصيات سطحية ومسطحة رغم ثقل وزن تأثيرها في الرواية، في ظل غياب توظيف عناصر الزمان والمكان والوصف في البنية السردية. غير أن البنية السردية اتخذت منها ممثلا عن المجتمع استنادا إلى أدوارها في الرواية ووظائفها.
فمركز الشخصيات يقوم على الأسرة المكونة من الأب والأم والابن والابنة. ثم الشاعر. وأعداد أصدقاء أفراد الأسرة محدود جدا ومرتهن إلى مشاهد محدودة تسلط الضوء على أفكار محددة ولا يسند السرد إليها أحداثا مهمة أو تطوير حبكة الرواية.
وبرغم قصر مدى الرواية إلا أنها تطرقت لتجارب حياتية عديدة كالعمل والظروف الاقتصادية، والعلاقات العاطفية، وطبيعة الزمالة، وواقع المرأة. وتمثلت مظاهر الواقع المادي والاستهلاكي في مضمون الرواية (الطرف الواقعي) في الحساب الدقيق لكل مجال من مجالات الحياة بصورة مذهلة كالغذاء وأسعار الأشياء وعدد الخطوات المستغرقة لبلوغ مشوار، والمسافة بالسنتمترات وعدد رمشات العين ولفتات الرأس للتعبير عن الحالات الانفعالية، ورعاية العلامات التجارية لكل عنصر أو غرض مستخدم….الخ.
فالرواية تبدأ بهذا المدخل المكتنز بالأرقام بصورة متقنة ” أكلت ثلاثين غراما من السبانخ هذا اليوم. سعر الكيلو باثنين من اليوروهات وثلاثين سنتا. وحسابيا نحتاج يوميا إلى ثلاثين سنتا لكي نحصل على الفيتامين “ك” حسب ما تذكر إحدى الدراسات. استهلك أبي عشرين غراما من القوة عند باب المطبخ “. وبهذا المفتتح يدخل المتلقي عالم الأرقام والحسابات والفوائد النفعية للأشياء.
إن (اللغة الرقمية) التي استعاض السرد بها عن التعبيرات التقليدية هي التي أسست، بالدرجة الأولى، لبناء النسق المادي المغلق على ذاته ومكوناته في الرواية، والمكتفي بعناصره. وكشفت جوهر الاستهلاك الذي يحوّل كل صورة حيوية في ذهن الشخصيات إلى حسابات رياضية في واقعها، ثم يحلل مقدار المنفعة العائدة من كل ما تقدم عليه الشخصيات.
مرتبط