عن كثب/.. أعلن الملحن عمرو مصطفى أنه يستعد لإطلاق أغنية من تلحينه تؤديها أم كلثوم ونشر في صفحته مقطعاً منها. على رغم أن أم كلثوم توفيت قبل نصف قرن، وقبل أن يولد عمرو نفسه ببضع سنوات.
لعل الحل يكمن في تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي يحاول الآن أكثر من مغن وملحن وشاعر الاستثمار فيها. هذه التطبيقات تستطيع الآن أن تؤلف كلمات للأغاني وتلحنها وتختار الصوت المناسب لأدائها.
تنتشر التجربة في الغرب أكثر من العالم العربي، برعاية شركات كثيرة مثل “أنكاني فالي للموسيقى والتكنولوجيا” التي تعمل في هذا الاتجاه منذ أكثر من عشر سنوات لإعادة إنتاج الأغنيات الأصلية بشكل تجاري ومزجها مع أغنيات جديدة، وهناك مواقع كثيرة تقدم مساعدات لتوليف أغاني الذكاء الاصطناعي.
وقُدمت بالفعل تجارب باسم مغنين مشاهير راحلين وأحياء مثل: نيك كيف، بيونسيه، وإيمي واينهاوس وريهانا، وبعضها تم السماح له بالمشاركة في مهرجانات غنائية.
عربياً انتشرت عبر الإنترنت توليفات بواسطة الذكاء الاصطناعي لأغانٍ مشتركة تحاكي أصوات مطربين مثل شيرين وأصالة وإليسا في “كتر خيري”، و”الصبر جميل” بأصوات شيرين وأصالة وأحلام، وكذلك حسين الجسمي وشيرين في “يا خبر”.
بينما كانت أم كلثوم الأكثر حضوراً خلال السنوات الماضية من خلال حفلات في السعودية ودبي والكويت ومصر عبر تقنية “الهولوغرام” التي تعتمد على تقنيات الليزر لإنتاج واقع افتراضي مجسم. بمعنى أنه يحاكي حضورها المعروف على خشبة المسرح، بوقفتها وملابسها ومنديلها وطريقة تحريك جسدها، كأنها شبح، بمصاحبة أغانيها كما هي.
هذه التقنية كانت استعادة بصرية أقرب إلى استحضار الأجواء والطقس الكلثومي من قبيل النوستالجيا، لكنها لا تمس أغانيها. على عكس الذكاء الاصطناعي، الذي من المفترض أن يُضيف أغنيات جديدة إلى رصيدها لأنه يستحضر صوتها نفسه، وطريقة أدائها للكلمات. وإذا كانت لم تقدم أعمالاً بمشاركة مطربين آخرين معها في الغناء، فلن نعدم أن تقدم “دويتو” مع إليسا أو محمد عبده مثلاً.
ثمة من رأى في الذكاء الاصطناعي فرصة لتطوير توليف الكلمات والألحان والبحث عن أداءات جديدة. في مقابل من ارتاب في الفوضى المتوقعة بسببه. فهل من حق أحد أن يجبر أم كلثوم ـ الآن ـ على تقديم دويتو مع أي مطرب؟ هل من حقه أن يجري على لسانها كلمات لا تعرف عنها شيئاً ولم تخترها بنفسها؟ الطريف أن الممثل الشهير توم هانكس أبدى تخوفه من استحضاره مستقبلاً عبر الذكاء الاصطناعي في بطولة أفلام لا يرضى عنا.
حقوق الملكية
قضية حقوق الملكية ملتبسة ومعقدة، ففي الغرب هناك من طالب بتعديل القوانين بما يسمح بهذا الاستثمار الغنائي الغامض، بينما الوضع في العالم العربي أكثر غموضاً. فلو أخذنا أم كلثوم ـ بوصفها أهم نماذج الغناء العربي ـ لا يُعرف على وجه الدقة من صاحب الحقوق المادية لتراثها الغنائي وما تركته من أفلام وحفلات، فعلى سبيل المثال تبث فضائية روتانا يومياً إحدى حفلاتها، ويقدم التلفزيون والإذاعة في مصر أغانيها وأفلامها ولقاءات معها، كأنها “ملكية عامة”.
وقبل عامين أثيرت ضجة حول صاحب الحق في استثمار تراثها، ما بين شركة القاهرة للصوتيات والمرئيات (شركة حكومية) وشركة المنتج محسن جابر (خاصة)، وجانب من النزاع هنا مرتبط بمصالح الورثة القانونيين للفنانة الراحلة. فهل لقرابة الدرجة الثالثة والرابعة التحكم في إرثها بعد نصف قرن على رحيلها؟ ومن الذين يستفيدون من عوائد بث حفلاتها وأغانيها وتوظيفها في الإعلانات ورنات الهواتف؟ وهل من حق الدولة أن تؤمم منجزها الفني باعتباره تراثاً لا مادياً مملوكاً للشعب؟ ثمة مساحات واسعة من الغموض وافتقار الشفافية وعدم وضوح الإجابات.
مع ذلك خرج محسن جابر ببيان رسمي بوصفه مالك تراث الست، وأكد أن الملحن عمرو مصطفى لا يستطيع تقديم أغنية بصوتها. وطالبه بعدم طرحها لأنه “يمتلك توكيلاً رسمياً من جميع الورثة الشرعيين لأم كلثوم، مهدداً بأنه سيتخذ كل الإجراءات القانونية لوقف الأغنية” التي لم تبث كاملة حتى الآن. وشدد على ضرورة إيقاف أي مهزلة أو عبث بصوت أم كلثوم، لأنها “رمز كبير لا يجوز لأحد أن يقوم بنسخه أو تشويهه، أو العبث به”.
السؤال هنا: إذا كانت شركة محسن جابر تملك حقوق أغانيها، فهل تمتد ولايتها إلى كيفية استثمار صوتها أو أيقونتها؟ بمعنى آخر إذا وظف مخرج حضورها عبر الهولوغرام في فيلم، هل يحق لجابر الاعتراض؟ وإذا حاكى عمرو مصطفى ـ أو غيره ـ صوتها في أغنية مهرجانات، هل هناك قانون ما يمنع ذلك؟
الإشكالية هنا أن عمرو لا يستغل أي أغنية معروفة لها، وخاضعة لحقوق الورثة، وإنما فقط يحاكي الصوت. فالأمر يشبه قديماً ـ مع فارق التشبيه ـ طريقة لبلبة في أداء أغاني عبد المطلب وفهد بلان. الفرق أن المحاكاة قديماً كانت هزلية، ومن أغاني الفنانين أنفسهم، لكنها الآن محاكاة تكنولوجية بكلمات وموسيقى مغايرة. وإذا قدم عمرو مصطفى فعلاً أغنية كاملة بصوت أم كلثوم فإلى من تذهب عوائدها؟ إلى الورثة الشرعيين أم إلى منشئ الأغنية؟
حسمت شركة وموقع Boomy الإجابة بأن العائد يكون لمن أنشأ الأغنية. علماً أن الشركة التي انطلقت قبل خمس سنوات، أنشأت حتى الآن خمسة ملايين أغنية!
هواجس أخلاقية
بعيداً من الإطار القانوني المنظم لتداول الموسيقى عربياً وعالمياً، ثمة هواجس أخلاقية لا يمكن إغفالها بخصوص كل تطبيقات الذكاء الاصطناعي وليس في الغناء فحسب. وأولها صعوبة التمييز بين “الأصلي” و”المزيف”، وتمويه الحقيقة. ففي القريب العاجل ستنشر مقاطع فيديو لشخصيات عامة بصورهم وأصواتهم وهم يقولون كلاماً يستحيل نسبته إليهم. وسيصبح من السهل فبركة ونشر إشاعات عن الآخرين واقتحام خصوصيتهم.
فالمسألة لن تتوقف عند محاكاة لطيفة لصوت مطربة أو مطرب، بل ستصل إلى طمس الحقائق والتلاعب بها. إضافة إلى أن البشر بهذا التطور المتسارع قد يستغنون عن مهن كثيرة كالمطرب والموسيقي والشاعر والصحافي لمصلحة هذه التطبيقات.
حتى الآن لا تبدو التجارب العربية واعدة تماماً، فثمة شيء آلي في الأداء وعدم انسجام وروح مفقودة. فالإبداع البشري نتاج تعقيدات كثيرة نابعة من تجارب ومعاناة الفنانين وذكرياتهم وأحلامهم. ويملكون تلك المرونة الفائقة في الوعي بالماضي والحاضر والمستقبل. بينما الآلة أو التطبيق يظل جامداً إلى حد ما في وعيه باللغة، ومفتقراً إلى حساسية الإبداع البشري وعاطفيته وقدرته على التأثير والإلهام.
إنه لم يزل في طور المحاكاة الفاترة للأصل، ما دعا المختصين في الغرب إلى تدشين حملة لضمان ألا يقتل الذكاء الاصطناعي الإبداع البشري.