لعلَّ من المعروف أنَّ العمل الروائي بطبيعته مغامرة تتطلب شجاعة أدبية من نوع خاص، كونه يتناول تشكيلات المجتمع ويحاول استقراءها.. من حيث المنظومات الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية المعقّدة.. ما يعني احتمال الاصطدام بمعتقدات وتابوهات ومسلَّمات راسخة في الوعي الجمعي، لا يخلو المساس بها من الحساسية المفرطة.. بل قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، وهذا يستدعي أدوات معالجة دقيقة وإمكانيات كتابية عالية.. وهو ما يمكن التأكيد أن الروائية الشابة ذكريات البرام امتلكته بكفاءةٍ واقتدار.
رواية (ملاذ آدم) أو (رفيقات القات والدُّخان) للكاتبة المبدعة ذكريات البرام، استقراء احترافي للوسط النسائي واشتغال استثنائي في العمل الروائي.
تحمل الرواية عنوانًا مزدوجًا كما هو واضح.. لتشابُك موضوع الفكرة الأساسية مع معادِلات موضوعية أخرى، كما يدل هذا العنوان المزدوج على ثنائيات كثيرة في طياته.. منها: آدم وحواء، الرجُل والمرأة، الولد والبنت، الفرد والمجتمع، الأرض والإنسان، الحقيقة والخيال، الحضور والغياب… إلخ.
لقد تشابَك في ثنايا الرواية: الأنا ونحن، الواقع والافتراضي، اليقين والشك.. وخرجنا بعمل يستكنه مكنونات النفس البشرية على كل مستويات اختلافها وبكل تقلباتها وتناقضاتها.
هي ليست رواية فحسب، كما توضح ذلك الكاتبة في ناصية روايتها، حيث إن العمل اشتمل على رؤية فكرية تنويرية وتكامل لغةً وأسلوبًا مع التفريعات الكتابية الأخرى كالشعر والمقامة.. فقد جاء بنفَس شاعري وتماهى مع المراجع والإحالات الثقافية.
يمكن القول: إن العمل استطاع أن يقتحم عوالم المسكوت عنه بذكاء، وأن يعالج أشكال القُبح في المجتمع بأسلوب جميل.. وما هي مهمة الكاتب إن لم يتناول الظواهر القبيحة بطريقة جميلة؟!!
يحسب لكاتبتنا الفذة اعتدادها بقيمة المرأة/ الأنثى، في المجتمع، وهذا بخلاف كثيرات ممن يتناولن قيمتها من زاوية مظلوميتها فقط، وسيطرة الرجل في مجتمعنا الذكوري.. لقد تجاوزت هذه العقدة إلى تفسيرات مردها إلى النظريات العلمية والطبائع الإنسانية، بما يبقي لكل منهما الفضل والقيمة والدور وفق مفاهيم حضارية تنظر للمقاصد.
إلى ذلك، نلاحظ ما يمكن تسميته تناسخ الشخصيات في فصول الرواية بما يشبه تناسخ الأرواح في ثقافات عديدة، لتعزز بذلك فكرة وسطية خليقة الإنسان بين الملائكية والشيطانية.. فلا هو ملاك كريم ولا هو شيطان رجيم، وإنما بشر يصيب ويخطئ، ويزهد ويطمع، ويوقن ويشك، ويشتهي ولا يشتهي…
رواية في مضمونها لا تكتفي بمخاطبة قارئ واحد، بل تخاطب عوالم مختلفة من القُرَّاء، وتتفوَّق على شرائح مختلفة من الكُتَّاب.
في الرّواية أيضًا، استطلاع موازٍ لأحداث ومُجْرَيات ووقائع ومستجدات واكبتها الكاتبة مضافة إلى ما كانت عايشته في مجتمعها من قبل على مدار ربع قرن.
والزمن في الرواية تناوب عليه الماضي الذي بدا أنه مرَّ سريعًا والحاضر الذي يبدو أنه يمشي بطيئًا.. ربما لتضع الكاتبة القارئ أمام نص مفتوح يشبه نصوص العوالم الافتراضية، وكأننا أمام مستقبل نحن من نرسمه عن وعي أو بلا وعي.
وأنت تتفيّأ في ظلال رواية ذكريات البرام، وتتنقل بين سطورها مستمتعًا برحلة عبر محطات عديدة، لا تملك إلا أن تعود منك إليك مندهشًا.. وتستمتع بقراءة ما لك وما عليك مقتنعًا.. فقد رأيت رأي العين ما ترى كل يوم ولا تستطيع وصفه. فجاءت الكاتبة لتصفه هي نيابة عنك وعن مجتمع كامل، بأسلوب إبداعي استثنائي، وما الإبداع إلا أن نحوّل الشيء العادي إلى شيء غير عادي!!
باختصار نقول: (ملاذ آدم).. فعلًا ليست مجرد رواية كما تقول ذكريات البرام في مطلع استهلالها الجميل.. إنها بتجلياتها زلزال وجداني بِبُعدٍ إنساني.. وهكذا عندما تشعل أنامل الجميلات ثورة فكرية وثقافية واجتماعية حقيقية.
