وجدي الأهدل*
لفت انتباهي بشأن الكاتب المسرحي يون فوسه، الفائز بجائزة نوبل للأدب هذا العام (2023)، أن الحكومة النرويجية إعارته بيتًا مدى الحياة تقديرًا لمساهمته في الأدب النرويجي.
عندما ذكره أحد الصحفيين بهذه المكرمة، رد بدعابة قائلًا: “تحصل عليه عندما تبلغ الخمسين من عمرك، لكنهم بعد ذلك يتوقعون أن تموت في سن الثمانين!”.
لقد كان الشاعر اليمني الكبير عبدالعزيز المقالح مستحقًا لنيل هذه الجائزة الدولية، فإذا كانت الأكاديمية السويدية قد تجاهلته، على غرار العشرات من المبدعين العظماء، فإنه من المعيب أن يتجاهله اليمنيون ولا يقدرونه حق قدره، وأما بشأن القابضين على السلطة، فإن هذا التجاهل يرقى إلى مستوى الجريمة.
ليس هناك أيّ شارع في اليمن يحمل اسم الشاعر عبدالعزيز المقالح، ولم تفكر وزارات الثقافة في تخصيص جزء متواضع من موارد صناديقها لشراء منزل في صنعاء لتحويله إلى متحف للمقالح.
لن أتحدث عن الشاعر العظيم الآخر عبدالله البردوني، لأن قصة ضياع فرصة تحويل منزله إلى متحف معروفة للجميع، وهي دليل شديد الوضوح على انحطاط هذا الجيل من اليمنيين الذين فشلوا في الاحتفاء برموزهم الأدبية والفكرية والفنية باستمرار دون أن يؤنبهم ضميرهم.
نعود للشاعر عبدالعزيز المقالح، ونقول إن اليمنيين لم ينصفوه بأيّ شكل من الأشكال بعد موته، وعلى جاري عادتهم لن يصنعوا شيئًا من أجل ذكراه، سوى مقابلته بالتجاهل والصمت واللامبالاة.
اليمنيون ينتظرون مبادرات من الخارج، ينتظرون مؤسسات وحكومات وأفرادًا من دول أخرى، تقوم بفعل شيء ما من أجل تكريم ذكرى الشاعر عبدالعزيز المقالح، وبعد ذلك سيهبون للاحتفاء بشاعرهم الفذ، والانتهازيون سيشاركون في الزفة بحثًا عن المنفعة المادية.
لم نسمع أن مؤسسة حكومية أنشأت جائزة باسم الشاعر عبدالعزيز المقالح، والحقيقة أن هؤلاء أبخل من أن يعطوا قرشًا ليس مرتبطًا بدائرة مصالحهم الضيقة، فأيّ نفع يعود عليهم من توزيع الأموال تكريمًا لذكرى أديب راحل؟!
وأما رجال الأعمال اليمنيون، الذين أسسوا وبنوا ثرواتهم من الاقتصاد اليمني، فإنهم بعيدون تمام البعد عن فهم أهمية الثقافة في نهوض ونمو وتطور البلد.. يبدو وكأنه من المستحيل أن يتمكنوا من الربط بين الثقافة والمجتمع المتحضر.
لكي ننجح سياسيًا واقتصاديًا وفي كافة المجالات، يجب أن تتغير ثقافة المجتمع أولًا، وبعد ذلك يمكننا التطلع إلى أن يلحق اليمن بدول العالم، لن نقول دول الخليج لأن الفارق بيننا وبينهم صار شاسعًا، ولكن لنلحق على الأقل بالصومال وجيبوتي.
ولد الشاعر عبدالعزيز المقالح عام 1937 في قرية المقالح بمحافظة إب، وتوفي عام 2022، وخلال مسيرته الغزيرة الإنتاج أصدر 35 كتابًا، تراوحت ما بين الشعر والنقد والفكر، وهو إنتاج رفيع المستوى، وستزداد قيمته بمرور الأيام، وقد يحتاج الأمر إلى مئة عام حتى يدرك اليمنيون القيمة الحقيقية العظيمة لمؤلفاته الأدبية.
إذا كان هذا الجيل عاجزًا عن إنشاء متحف للمقالح، فإنني آمل من عائلته وأصدقائه المقربين الاحتفاظ بإرثه من مخطوطات وأوراق بخط يده ومراسلاته، ومكتبه ومكتبته، ومتعلقاته الشخصية ومقتنياته، لأنه سيأتي يوم لا محالة ويصبح متحف المقالح معْلمًا من معالم المدينة التي أحبها الشاعر ولم يبارحها أبدًا.
في عام 2004، وهو العام الذي صارت فيه صنعاء عاصمة للثقافة العربية، تبنى عدد من الأصدقاء فكرة إنشاء متحف للمقالح، من بينهم د. عادل الشجاع وكاتب هذه السطور ومحمد الملصي وآخرون، ولكن كعادة اليمنيين فوتوا الفرصة السانحة – فرصة توفر المال – واستكثروا على أعظم شعرائهم شراء منزل أو استئجار موقع يصلح أن يكون متحفًا.
بالنسبة للدولة، فإن الأمل مفقود نهائيًا في أن تلتفت إلى شاعر راحل مهما كانت عظمة إنجازاته. ويبقى الأمل معقودًا على القطاع الخاص، إذ يمكن أن تقوم حملة تبرعات تشمل بنوكًا تجارية وبيوتات مالية عريقة، في حدود عشرة مثلًا، لشراء أرض وبناء متحف عليها، وأن توضع في مدخل المتحف شاهدة رخام توثق أسماء المتبرعين ومقدار تبرعاتهم، كنوع من رد الجميل لهم على مساهمتهم في تشييد المتحف.
في مصر التي تسبقنا حضاريًا بخمسمائة عام على الأقل، نجد أن ثقافة إنشاء المتاحف لرموزها الفنية والأدبية والفكرية جزء لا يتجزأ من حفظ الهوية المصرية، والمتاحف تساهم في تكوين الشخصية المصرية وتربيتها على أسس متينة.
نجد في مصر متاحف لطه حسين ونجيب محفوظ وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وتوفيق الحكيم، ومتحف رموز ورواد الفن المصري الذي افتتح بداية عامنا هذا، ويضم مقتنيات 79 فنانة وفنانًا مصريًا، والحبل على الجرار، فمصر ولادة للمواهب العملاقة، والأجيال تتربى على إبداعاتهم وتتخذها قدوة لها.
لتكن البداية في اليمن بمتحف للشاعر عبدالعزيز المقالح، ومتحف للشاعر عبدالله البردوني، على أمل أن تتذكرهما الأجيال اليمنية الصاعدة وتتخذهما نموذجًا للشخصية اليمنية المرتجاة، من حيث سعة الثقافة وغزارة الإنتاج وأصالة الإبداع، وعشرات الفضائل الأخرى التي نأمل أن تتحلى بها شخصية الإنسان اليمني المعاصرة.