مصطفى راجح*
لن تكون قادرا على فهم عبد الكريم الرازحي لو نظرت له من زاوية واحدة.
هو شاعر متفرّد، وله أسلوبه الخاص الذي لا يشبهه فيه أحد، ومتجاوز للشعر إذا ما أردت أن تحدده في إطاره، وتفهمه من خلاله.
قاص وروائي هو الرازحي، ولكنه يقيم في صدور الناس، وله عالمه الخاص ومفرداته، غير آبه بموضات السرد، ولا عالق بمحاكاة انفجاراته اللغوية.
ومثلما أفلت شعره بعد الديوان الأول من آحابيل اللغة، ووضع مخيلته في الحياة وحيوية مفرداتها، فإنه روائي لم يُضْبَط يوماً وهو يحاول محاكاة موضات السرد، أو النسج على منوالها، ليكتب «نصاً ساكتاً» لا معنى تحتويه تشكلاته اللغوية.
كاتب سياسي وساخر متميز هو الرازحي، ولا أحد يمتلك قدرته على الوصول، ولكنه لا يتحدد بمسطرة الفرز السياسي وكاتلوجات الأحزاب والسلطات. كيمياء الناس يُدركها بداهةً في أسلوبه وعناوينه، وسرديات تلقائية أجادها، وأتقن معانيها وأساليبها.
بمختصر القول؛ كتابات الرازحي تُدمج المقال السياسي الساخر بالسرد القصصي، وتمزج القصيدة والرواية بنبض الناس، وتُدرك ما تريد أن تقوله، وأي الطرق تسلكها للوصول إلى الحياة الشاسعة، التي انطلقت منها، وعادت إليها في صيغ مكثفة بمسمى مقالات وقصائد وروايات يقرأها المثقف والإنسان العادي، ويرى ذاته تطل من بين سطورها، وخلف كلماتها. في كل فن من فنون الكتابة بصم عبدالكريم الرازحي بطابعه الشخصي الخاص به وحده.
نسي الناس أغلب أدباء وكتاب اليمن، في سنوات الحرب، واختفاء الصُحف، وإغلاق الأكشاك والمكتبات أبوابها، إلا عبدالكريم الرازحي لا زالت شعلته متقدة، وكتاباته محفورة في ذاكرتهم.
دار الزمن عدة دورات، وعصفت باليمن أحداث كبرى، سقطت دولة وانهارت بلاد، وتوزعتها سلطات وجماعات واستباحتها دول من خارجها، لكن عبدالكريم الرازحي بقي حياً في ذاكرة الناس، وكاتباً متوهجاً، ومشاءً يجوب اليمن، ويستكشف جبالها وسهولها، وما خفي من جمالها.
صدرت مئات الروايات، ومئات الدوارين الشعرية، بزغ روائيون وشعراء وكُتاب وفنانون شباب، وبقي الرازحي علامة دالة على معنى أن يكون مؤلفاً ما تعبيراً عن الناس، وساكناً أبدياً في حياتهم.
كانت التسعينات ذروة الرازحي. كتب المقالات، وأنطق حنجرة الشعب، وأصدر كُتباً هي التلخيص المكثف لنموذج يقدم الشعر والأدب والثقافة والمعرفة بصيغة السهل الممتنع، تصل إلى الناس مع احتفاظها بقدرتها على احتواء المعنى.
عن المسؤولية الاجتماعية
من بداية الألفية أضاف الرازحي عقدا آخر مقيماً في ذروة عطائه. من بداياته في السبعينات، وحتى اليوم، يتجلى الرازحي عالماً قائماً بذاته؛ شاعراً، أديباً، روائياً، كاتباً سياسياً ساخراً، ومتأملاً وجودياً، ومشاءً حول المشي إلى أفق للتحليق فوق ثقل الحياة في زمن الخراب، وإنساناً أصيلاً لم يفقد براءته، ويبتسم مشرقاً كأنه في صفحة طفولته الأولى.
الحياة من حوله تزداد كآبة ووحشة، وهو يضحك من عُتْمتها ببهجة مشرقة تستمد ضوؤها من روحه المتقدة في أعماقه، التي لا يصل إليها أحد. لا تلمح أي تجويف لضغينة مخفية في بسمته. لا تلمح خلفها طبعاً نقيضاً لها. ليس بإمكانك إلا أن تُشرق بحضوره، مغمورا بضحكته الغزيرة. ضحكة الرازحي تفصح عن حقيقته النفسية لا عن لحظة عابرة تجمعه بأصدقائه.
في كتابات الرازحي وقصائده ورواياته، ترى الناس العاديين، اليمن، تقف على الحياة وقد تبلورت قصائد وروايات ومقالات ساخرة ومسرحيات. يسخر من القبح والوجوه المستعارة، لكنه ليس أعمى عن رؤية الجمال، مدركاً بأنه الحقيقة الأسمى.
ليس مغتاظاً من الحياة رغم الحزن والألم وما لاقاه منها. المغتاظ يفقد حسّهُ بالحياة، وتُثْلَمْ موهبته ولا يعود ممتلكاً القدرة على إنجاز كتابة إبداعية تنتصر على الموت والقنوط، وتُعلي من شأن الحياة وتفلسفها.
ما يجعل الرازحي رجلاً مُعافى في أعماقه وقادراً على التجدد الدائم هو اختياره الأول: أن يكون حقيقياً، ويصدر من ذاته لا من خارجها. لم يدّعِ يوماً أنه في مرتبة أعلى من الإنسان العادي. لم يرتدِ يوماً قناع العارف الحكيم، ولا استساغ هيئة المثقف المتعالي. سحنة الأديب لم تتمكن من بروزته في إطارها، ويتوجس ممن يصفه ب«المناضل» باعتبارها شتيمة. الرازحي هو الرجل الذي يزدري كل الألقاب، ويبجل صفة واحدة: الإنسان.
بإمكان القارئ العادي أن يُدرك أنه ليس ذلك الذي عاش بمنأى عن نوائب الحياة ووخزاتها المؤلمة. لكن في داخله، كان الألم والحزن والخضات تتحول إلى وقود ينضِج وهج الحياة. إنه من ذلك النوع الذي يتحول الحزن في أعماقه إلى وقود للبهجة الناضجة والفرح المكتمل.
في مفتتح حياته قادته شعلته المتقدة إلى سجن القلعة. عاش تجربة التغطيس في بركة محمد خميس، عرف التعذيب وعرف معنى أن تكون الزنزانة هي أول ما تعدك به الحياة. خرج الرازحي منها ليجد نفسه في مواجهة هيدرا بثلاثة رؤوس: شبكة السلطة، سموم الحزبيين، وفتاوى الظلاميين.
الحياة سلسلة متصلة من تواتر الألم والفرح، الجروح والشفاء، النوائب والنجاة منها. النجاة نقطة في القلب، لا شروط العيش اليومي، إنه دائما الإيمان بشيء متجاوز للمحدودية.
نجى الرازحي من كماشة مزدوجة؛ زنزانة خميس، ومقاولي الأحزاب وسمومهم. أما فتاوى وكلاء الدين فكانت أقل من أن تنال من مبدع اصطلى بنار الحياة، وأوقدت بهجتها في قلبه. لا أحد بإمكانه أن يصل بسهولة في وادٍ متنوع الغيلان كهذا. كانوا يخفتون، والرازحي يضيء في وجدان الناس العاديين. يضمحلون، ويتسع الرازحي في حياة حقيقية لا تعرف الإدعاء، ولم تحترف يوماً الشعارات وأقنعة الممثلين.
أحاول هنا أن ألامس ما وراء الإنجاز الأدبي. أن أنظر خلف كُتُبهُ وأشعاره.
أحاول الاقتراب من عالم عبدالكريم الرازحي؛ الكتاب الأول المُصاغ في ذاته. ما الذي أراد أن يقوله؟ لا تصدقوه إذا قال لكم إنه لم يرد أن يقول شيئاً، وأنه يكتب لمجرد الكتابة نفسها. هذه إجابة ما بعد الاكتمال. إجابة من يخشى أن يقع في أي شبهة إدعاء تضع خدشاً، ولو صغيراً، في نظرته لنفسه كإنسان، إنسان أولاً وأخيراً، وهي الحقيقية التي يؤكدها في كل ما يكتب ويقوله ويفعله.
أتحدث عن الرازحي، تاركاً للآخرين شرحهُ من دواوينه ورواياته، كُتبه ومؤلفاته: «الاحتياج لسماء ثانية وجحيم إضافي / نساء وغبار / حنجرة الشعب / قبيلي يبحث عن حزب / طفل القوارير / الشيخة زعفران ـ السيرة الشعبية لقرية العكابر / الفتوحات الهندية / البقرة البيضاء / أبو الروتي، وكتابات عديدة لست في معرض حصرها في هذه المقالة».
يكتب هذا الرجل بكل ما يفعله في الحياة لا فحسب بالقلم، وما يسطره في الورق.
حُماره قصة لوحدها. حوله إلى رمز أدبي، وطبع ذكره في ثنايا مقالاته وإحالاته المتنوعة. سيكل الرازحي يعرفه الجميع كواحدة من علامات المدينة، ورمزياتها اليومية.
فرن عدن، الذي عمل فيه طفلاً، حوله إلى سردية يقرأها الناس، ويستقصون كاتبهم المحبوب من خلالها. غاص قراؤه في “قرية العكابر”، وبقرة الرازحي البيضاء، فيما كان آخرون يكتبون بمفردات غريبة لم يعرفوها هُم، ولم تمتزج بمعيشهم اليومي، ولا ذابت في كتاباتهم. التجربة هي الكتابة في عالم الرازحي. هو مؤلف يقيم في الحياة، ولا يستوطن النص منعزلاً في بروجه اللغوية.
لا يجادل الرازحي كثيراً في جلساته، ولا يعجبه الاسترسال في الكلام. الجدال للأوغاد محترفي الكلام، أما من يقفون على معنى الحياة في ذواتهم فهم لا يجهدون أنفسهم لإثباتها في السجالات البلهاء.
يحدثك الرازحي بحماس مستخدماً جُمل قصيرة سريعة وموجة قصيرة، ويقف.
الكلام يرهقه، كأنه يحدثك بنبض قلبه لا بلسان ينطق بالكلمات. ما يقوله لك ليس كلاماً. هو يبلغك بخلاصة ما اعتجن في ذهنه وتمت مباركته في قلبه. لا يضيق بشيء، قدر نفوره من التبجيل والادعياء والمزيفين والأوغاد. لم يصدفه أحد يوماً ما مرتدياً سُحنة المُبدِع. لم يضع يوماً قناعاً. لا تناديه بالأستاذ، وإياك أن تقول له “مناضل!”.
مناضل، كما يراها الرازحي: “تعني وغد يبيع الوهم للناس وأنا لا أبيع الاوهام ولست وغدا. مناضل يعني شخص تافه لديه مجموعة من التافهين والتابعين يقدسونه، وانا كنت ومازلت وحدي. ثم إن المناضل ليس إنسانا على الإطلاق، وأنا إنسان”.
إذا لم تفهم ما يحيل إليه الرازحي هنا، فانظر نموذجاً منهم في مآلات أوغاد النخب، وأين استقرت بهم حيلهم، وكيف سقطوا “بالأحرى انكشفوا”، وأسقطوا معهم بلاداً بأكملها في الخراب، وكيف ألقوا بها لتكون فريسةً للغيلان والذئاب.
في كل مرة ألتقي فيها عبدالكريم الرازحي، أجدهُ متوهجاً بالحياة، مقبلاً عليها ومتخففاً من كل أحمالها. أتأمله فأتذكر فريدريك نيتشة إذ يقول في أحد كتبه وكأنه ينطق بلسان الرازحي: «لم تخيب الحياة ظني. على العكس، فقد وجدتها، سنة عن سنة، حقيقية أكثر، مرغوبة أكثر، وغامضة أكثر».
الرازحي يرى الحياة كما رآها نيتشة؛ تجريباً للمعرفة، لا واجباً، لا قدراً، ولا مغالطة.
“الحياة كوسيلة للمعرفة؛ بهذا المبدأ في القلب نستطيع لا فقط أن نحيا بشجاعة،
بل كذلك أن نحيا بمرح ونضحك بمرح”
*كاتب يمني
عن موقع “قناة بلقيس“