تحملك أغنية حوارية الفل الورد التراثية، التي غناها محمد مرشد ناجي (1929-2013م)، إلى مسارح زراعة الفل ورياض الورود في محافظة لحج الخضيرة، لتحلق على واحات الحبيل، الصرواح، الحاسكي (غرة العين، سابقاً)، الخداد، الكداد، الهجل، القريشي، الحسيني، عبر لسلوم، بيت عياض، الثعلب، الحمراء، الزايدة، الشقعة وغيرها من مزارع لحج الخضيرة التي لم تمنح السكان والعابرين عقوداً من العطر فحسب، بل وتوفر الآلاف من فرص العمل.
في هذه المادة سنقف مع أهم ملحمة غنائية تنتمي لمدرسة الغناء اللحجي، وتحديداً مدرسة المرشدي، وهي حوارية الفل والورد، لكن قبل ذلك سنعرج على لمحة تاريخية حول زراعة الفل في لحج الخضيرة، وكيف تم جلبه من الهند، وما يمثله من نبتة عطرية، وبيئة زراعية خصبة بفرص العمل، زراعةً، وجنىً، وتسويقاً وبيعاً، وصناعات عطرية.
محمــــــد غبسي
تشير المراجع التاريخية إلى أن أمير سلطنة لحج الشاعر والملحن والقائد العسكري أحمد فضل القمندان (1884-1943م)، هو الذي استجلب بذور زهرة الفل من الهند وقام بزراعتها في بستان الحسيني بمدينة الحوطة في سلطنة لحج، في ثلاثينيات القرن الماضي، وهي محافظة لحج حالياً وفق التقسيم الإداري للجمهورية اليمنية، ولم يمر وقت طويل على دخول الفل إلى جنوب اليمن، وانتشار زراعته إلى مناطق أخرى أهمها محافظة الحديدة، حتى تحول الفُل إلى ثقافة شعبية يتشارك عطرها أبناء المجتمع اليمني في كافة المدن، وأصبحت عقوده – التي يتم رصها في عملية جمالية تشبه صياغة الذهب والمجوهرات – واحدة من أهم الهدايا التي تعبر عن الود والحب في كل مناسبة، صغيرة كانت أم كبيرة، على امتداد المحافظات اليمنية.
غير أن محافظة لحج تعد موطن الفل الأول في اليمن، ولا تزال تتصدر قائمة منتجيه وأشهر مُسوِّقيه، وفيها أشهر من تغنى به وأحاله إلى ملاحم غنائية لم يسبق لها مثيل، وخير دليل على ذلك هو الأغنية الشعبية الشهيرة حوارية الفل والورد.
زينة عطرية
بعكس المجوهرات التي يمكن شراؤها لمرة واحدة، فإن الفل برائحته الزكية ودورة حياته القصيرة يعد زينة عطرية استهلاكية، وبشكل يومي، الأمر الذي جعل له سوقاً متجددة على مدار الأسبوع، وسلعة ذات إقبال شرائي عالٍ، لكون شرائه لم يعد حكراً على المناسبات، بل صار سلوكاً استهلاكياً يومياً كمادة عطرية تلطف أجواء المنزل أو السيارة، وكذلك الأعناق.
ويمكن القول إن الفُل واحدة من أغاني الأمير القمندان أو لحن من ألحانه التي كُتب لها الحياة والخلود في ذاكرة الشعب اليمني، إلى جانب ما ترك من رصيد غنائي وموسيقي لا تزال كلماته ونوتاته تدندن حتى اليوم في أرجاء اليمن، وكما تنتقل موسيقاه من جيل إلى جيل، يتنقل الفل من عنق إلى عنق، وكأنه أمانة يجب أن يحافظ عليها المجتمع إلى ما لا نهاية.
ولأن القمندان أراد للفل البقاء في اليمن فقد تغنى به في أكثر من نص شعري، ومنها قوله «يا فل يا ناد من غرس الخداد.. عرفك ينسنس يرد الفؤاد»، وذلك لكون الفل مادة تعطر الأرواح، ويحرص الرجال والنساء على التزين به كونه مناسباً للجنسين ولكل الأعمار.
وفي لحج يوجد حراجان «مزادان» لبيع الفل بشكل يومي، ويستقبل كميات الفل القادمة من المزارع ويتم بيعها بنظام المزايدة، ومنه تنتقل إلى المحافظات وموانئ التصدير.
ويوفر الفل اللحجي – الذي يتميز عن غيره بكون حباته «أزهاره» صفراء كبيرة الحجم – فرص عمل كثيرة للمواطنين ليس في محافظة لحج فقط، بل يوفر فرص عمل للشباب في عموم مدن اليمن، وهي فرص قد لا يخلو منها شارع في عواصم المحافظات.
حوارية الفل والورد
لخَّص الشاعر الشعبي المكنَّى بـ «أبو ناصر» العلاقة الممتازة بين الفل والإنسان اليمني في حوارية الفل والورد، التي لحنها وغناها الفنان الراحل محمد مرشد ناجي، وأصبحت هي الأخرى سمة من سمات أفراح اليمنيين الذين يحرصون على غنائها في كل عرس.
وفي الأغنية التي لم يحدد اسم شاعرها الحقيقي بشكل صريح ودقيق، سرد شاعرها – الذي اكتفى بوصف نفسه بـ «أبو ناصر المضنى» – مميزات وجماليات الفل في قصيدته التي دشن بها مرحلة صعود الفل إلى المكانة العليا والمفضلة لدى اليمنيين على حساب الورود بكافة أنواعها وأشكالها:
قـال ابـو ناصـر المضنـى، فتـش ورد نيسان..
في خدود الغـواني
آنس الفل يوم الورد للزهر سلطان..
حاز كل المعاني
جوَّب الفل قال: الفن لي والتفنَّان..
نشوتي ليل داني
ما ترى الزف بعدي عصر، في بعض الأحيان..
كل عاشق شراني
يحتدُّ الجدل والحوار بينهما إلى درجة إسكات كلٍّ منهما للآخر، حيث يزجر الورد الفل مسكتاً له، ليتفرد بالكلام واستعراض أوصافه:
جـوب الورد قـال: اسكت، كم فيك هذيان..
خل عنك التماني
لي بساتين في الجنة، فسيحة وحيطان..
يوم ربي عطاني
كل عاشق من البصرة، شراني بحمران..
في مَرَشّ الصياني
فيرد عليه الفل مستعرضاً طقوسه المشهورة، وزكاء فوحه في المزارع، ونعومة وطراوة ملمسه، مقارنة بالورد المحاط بالشوك:
جوب الفل قال الفن، لي والتفنّان..
نشوتي ليل داني
مسكني في خدود البيض، من جنب الآذان..
يشهدوا لي الغواني
أنت يا ورد يا احمر، ليس في الحمر إحسان..
خل عنك التماني
شوف أنا مكتسي طول الزمن وانت عريان..
فوقك الشوك باني
كم يقع للذي يجناك في اليوم أكوان..
يصبح الدم حاني.
وعند هذا الحد يمتشق الورد لغة القول مفصحاً عن شهرته في الجنة عند الحور الحسان، وطول أوقات استعماله زينة، مقارنة بالفل الذي سرعان ما يُرمى:
جوب الورد قال: الصيت لي عند رضوان..
وعند حور الحساني
أنت يا فل مرمي يدعسك كل شيطان..
في الكداديف ضاني
بعدما تنجح السمرة يخلوك مهتان..
ينذقوك يوم ثاني.
عندها يشعر الفل بأن لا جدوى من إطالة الجدال الذي بدا قاسياً على طبيعتهما وحضورهما الجمالي، فدعا الورد صراحة للصلح، وبضمانة كبار متصوفة الفن والشعر في اليمن، وهما الشاذلي وابن علوان:
جوب الفل قال: الآن يا ورد نيسان..
با يقع لي أماني
خلنا نصطلح نبقى أنا وأنت إخوان..
يا سهيل اليماني
با يقع لي ضمين الشاذلي وابن علوان..
لا يخينوا ضماني
ذا جرى بينهم وابن الحسين بات سهران..
لا قريب الأذانِ.
الفل زراعةً وحضوراً اجتماعيا
يتميز الفل اللحجي بروائح عطرية جعلته بديلاً للعطور والورود وغيرها من الروائح التي تعطر الجسم والمكان، وقد حاز ثقة النساء والرجال على حدٍّ سواء، لتنتشر زراعته في أكثر من منطقة يمنية، وبات يُصدَّر إلى دول خارج اليمن.
وينتشر باعة الفل في فصل الصيف أكثر من أي وقت آخر، حيث يكون موسم غزارته من شهر أبريل حتى شهر سبتمبر، إلاَّ أن الإنتاج منه يستمر معظم أشهر السنة الدافئة بكميات شحيحة، ويتفنن الباعة في تشكيل زهوره في عقود وقلائد ملفوفة بطريقة جميلة وفنية جذابة.
لم يدافع عن نفسه فقط في قصيدة أبو ناصر، بل ذهب بعيداً لمحاربة الورد، وبات مسيطراً على أفراح ومناسبات اليمنيين بزهرته التي ترمز للحب والمودة، وباتت عقوده اللؤلؤية لغة التعبير الأكمل والأجمل في أعياد الميلاد وحفلات التخرج في الجامعات والمدارس والتكريم وغيرها.
أما قطف زهرات الفل فتتم مع وقبل شروق الشمس من قبل محترفين، وعُرف عن المزارعين تفضيلهم للنساء في عملية قطاف الزهور، لتميزهن بالصبر الشديد وحرصهن على ألا يتم إفساد الزهور التي هي رقيقة كالبلورات الممتلئة بالعطر.
ينفق اليمنيون ما يزيد عن 10 مليارات ريال سنوياً في صناعة وشراء عقود الفل، «وفقاً لتقارير سابقة»، ما يجعل تجارة الفل في اليمن رابحة، إضافة إلى أنه بات سلعة تصدر لدول الجوار، وبحسب تقديرات تجار سعوديين فقد استوردت المملكة العربية السعودية عبر منفذ الطوال الحدودي في عام 2015م فقط من الفل اليمني بقيمة تجاوزت 42 مليون ريال سعودي.
فرص أخرى لاستثمار الفل
انتشار الفل في اليمن والإقبال الكبير عليه جعله محل بحث من قبل المتخصصين في الزراعة، وفي 2012م نجح فريق من الباحثين اليمنيين في تحضير مواد عطرية برائحة عالية جداً تضاهي العطور الفرنسية الشهيرة، استخلصوها من زهرة الفُل اليمني.
وحينها أكد المدير الفني بمركز الأغذية وتقانات ما بعد الحصاد في محافظة عدن المهندس حسن خميس: «أن منتوج الفُل، وخاصة الفُل المستخدم في المناسبات يتم رميه ويتحول من اللون الأبيض الفاتح إلى اللون القريب من الاصفرار تتوفر فيه مواد مركزة لمشتقات العطور».
وأشار الباحثون إلى أن المواد التي جُمعت منها كميات تم إجراء التحاليل الكيماوية عليها بواسطة الجهاز اليدوي المختبري، وأظهرت روائح عالية جداً، وجرى استخلاصها بالتقطير بعد إضافة مادة منكِّهة مستحضرة من المركز وتعبئتها في قنينات خاصة بعطور يمنية مختلفة الأصناف.
وتلك الخطوة، بحسب خميس، دفعت الهيئة العامة للبحوث الزراعية في العاصمة اليمنية صنعاء إلى التحضير لعقد دورات تدريبية، نفذها مشروع النباتات غير المستغلة والأقل استخدماً باستقطاب عشرة متدربين من مزارعي الفُل في محافظات يمنية مختلفة، كُرست في مجال استخلاص الزيوت العطرية من الفُل اليمني، وبمشاركة باحثين من المركز الذي نجح في هذه التجربة التي تعود بالمردود المادي من حيث التسويق والتصدير الخارجي.
ويزداد إنتاج الفل باليمن في فصل الصيف الذي يعد موسم الأفراح، حيث يشهد السوق إقبالاً كبيراً على شراء عقود الفل، في حين يقل الإنتاج في فصل الشتاء وتكون أسعاره مرتفعة.
وتعد مدينة عدن التي تبعد عن محافظة لحج قرابة 23 كيلومتراً من أهم الأسواق التجارية لبيع الفل اللحجي. ويقوم بائعو الفل بخرز حباته وصنع قلائد منه ذات أحجام كبيرة يسمى باللهجة العامية «الجُرز»، تستخدمه النساء في يوم الزفاف، حيث يصل سعر القلادة الواحدة أحياناً إلى قرابة 30 دولاراً، بينما تباع القلائد الصغيرة الحجم بأقل من 5 دولارات.
نشرت المادة في مجلة “اليمنية”