جدل الفن والأمن… لماذا تلفظ المدن العربية عازفي الشوارع؟
1 min read
عن كثب/.. قبل أشهر قليلة ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بخبر إلقاء القبض على فرقة موسيقية كانت تعزف في أحد الشوارع بحي مصر الجديدة الراقي شرق القاهرة، حيث تم تداول فيديوهات متعددة للواقعة التي اعتبرت غريبة على المجتمع، ووجهت للشباب المشاركين فيها تهم التسول، حيث قيل إنهم كانوا يستجدون المارة من أجل كسب بعض الأموال.
وسرعان ما تطورت الأمور، فبدلاً من أن يمر المشهد مرحاً وخفيفاً على غرار ما يجري في شوارع المدن الأوروبية والأميركية، أصبح ذكرى لا يرغب أحد في تكرارها، وهكذا لا تألف الشوارع العربية هذا التصرف وتجده معيباً وغير لائق أو أنه ضد استتاب الأمن.
لكن المتسولين “التقليديين” ينتشرون بشكل طبيعي في عديد من المدن العربية، ومن النادر ما يتم اتخاذ إجراء قانوني معهم، في حين يبدو مشهد موسيقى الشارع غير عادي ويحتاج إلى تفسيرات وربما تحقيقات رسمية في مقار الشرطة.
وفي حين أصبح “الغرافيتي” فناً عابراً للقارات، وباتت شوارع المدن الكبرى مليئة بالجداريات التي تعبر عن هويتها وحتى أحداثها السياسية، فإن انتشار عازفي ومطربي الشوارع في ميادين وعواصم العالم العربي ظل محدوداً للغاية، وينظر إليه بعين الريبة، كما أنه في كثير من الأوقات غير مرحب به بالمرة، فإما أن يبحث هؤلاء عن وسيلة أخرى لعرض مواهبهم أو يتحملوا السخرية والتنمر والتجاهل، بل ويكونون محظوظين إن لم تصل الأمور معهم إلى الحبس، وبالطبع فإن الأمر يبدو أكثر رحابة في بلدان عدة، ولكن الغالبية في الواقع تحارب هذه الظاهرة.
فن يخاصم الشوارع
والجمهور العربي يألف مثل هذه المشاهد ويعرف تفاصيلها، حين يقف عازف وحيداً أو مع مجموعة من زملائه ليعرضوا مواهبهم على المارة الذين يتوقف بعضهم مستمتعاً وآخر قد يمنحهم بعض النقود في قبعة أو صندوق، ولكن هذا من خلال مشاهد الأفلام والمسلسلات العالمية فقط، لكن على أرض الواقع فلا تزال الظاهرة بعيدة عن الشوارع العربية، مثلها مثل ظواهر العروض الاستعراضية للهواة في الساحات، وكذلك ظاهرة الرسامين المتجولين الذين يفترشون الأرصفة ويبدعون صوراً سريعة للمارة مقابل مبالغ بسيطة، وحتى هذه وإن كانت تظهر من حين لآخر في بلدان عدة بالمنطقة، لكنها أيضاً في الطريق إلى التلاشي.
بالقطع كانت هناك محاولات كثيرة بمصر في الأقل للتعامل مع العزف في الشارع على أنه عادة ترفيهية محبوبة، ومنها محاولات داليا عاصم التي تلفت إلى أنها كانت تتدرب على عزف آلة الكمان في أوقات كثيرة أمام مبنى كليتها في حي الزمالك العريق بالقاهرة، وكانت تجد ترحيباً من رواد الشارع حيث يبدون إعجابهم بمستواها، ولكنها كانت تفاجأ بأن بعضهم يتذمر من تجمع الناس حولها بخاصة أصحاب المحال، ويحاولون إنهاء الأمر بأسرع وقت، وتعاملت مع الموقف باعتباره رسالة مفادها ألا تحاول مرة أخرى.
داليا التي تستعد للانخراط في مرحلة الدراسات الموسيقية العليا قريباً، تقول هذه الكلمات بشيء من السخرية والمرح، ولكنها لم تخف أنها كانت تضيق ذرعاً بتعامل من يمتلكون مراكز تجارية في الشارع مع هذا الموقف، معتقدين أن الموسيقى أمر تافه يعطل أعمالهم، وكانت تتمنى لو لم تتهاون مع سلوكهم الفظ.
قديمة ويرفضها الحاضر
اللافت أنه جرت العادة في بعض الأماكن الريفية أن يتجول عازفو المزمار والطبل، أحياناً بصحبة الخيول، لينشروا موسيقاهم التراثية في الشوارع كإعلان دعائي عن خدماتهم، حيث يستقطبون السكان والمارة الذين يتجولون خلفهم سعداء، وحتى في القاهرة قبل عقود اعتاد رواد شوارع وسط القاهرة على جولات من هذا النوع لفرقة “حسب الله” الموسيقية الشهيرة التي عرفت في مطلع الستينيات وكان مقرها في شارع محمد علي.
إذن فالأمر لم يكن مستهجناً اجتماعياً ولا حتى أمنياً، وهو ما يؤكده المحامي محمد هشام، منوهاً إلى أن رجال الأمن لم يكونوا يتعاملون مع الفرق الموسيقية الشعبية ومن ضمنهم عازفو الشوارع على أنهم متسولون، كما أن الأمر كان محل تشجيع من المجتمع. مشدداً على أن فرقة “حسب الله” مثلاً تعتبر واحدة من أهم وأشهر الفرق الموسيقية التي سيطرت على أذهان المصريين.
تبدو موسيقى الشارع أيضاً نوعاً من أنواع التنفيس، وقد انتشرت في مصر في نطاق زمني وجغرافي محدود تزامناً مع تظاهرات 25 يناير (كانون الثاني) 2011، حيث كان ميدان التحرير يمتلئ بعشرات التجمعات للفرق المستقلة، والمطربون التقلديون أيضاً يقدمون أغنيات سياسية ووطنية ويعبرون عن مواقفهم، سواء من خلال أداء أعمال قديمة أو أخرى جديدة أبدعوها بأنفسهم، وكان من أبرز الوجوه التي ظهرت في تلك الفترة، المغني رامي عصام كما وجدت المطربة شيرين عبدالوهاب في الميدان مرات عدة وغنت مع المتظاهرين، وكذلك الفنانة عزة بلبع التي أدت أغنيات الشيخ إمام بصوتها، وكذلك كان هناك فرق مثل “وسط البلد” و”إسكندريلا” و”مسار إجباري”، حيث أدوا أعمالهم الحماسية في الميدان وسط عشرات الآلاف من الثوار.
كانت تلك أبرز مشاهد موسيقى الشارع في مصر، ولم يكن أصحابها يسعون للحصول على تبرعات، لكن فقط المشاركة والإعلان عن رأيهم السياسي، ثم اختفت تلك الحلقات الفنية من الساحة مع تغير الوضع، إلى أن حاول البعض إعادة المشهد أخيراً ولكن بعيداً من السياسة، ثم إن تفاصيل أخرى على ما يبدو أدت في النهاية إلى تحول المسار تماماً، فبحسب البيان الرسمي لوزارة الداخلية الصادر في 20 يوليو (تموز) الماضي، فقد قام ثلاثة أشخاص باستعمال الآلات الموسيقية في الساحات وطلبوا المال من المارة، وجاء في نص البيان أيضاً، “عقب تقنين الإجراءات تم ضبطهم، وبمواجهتهم اعترفوا بارتكاب الواقعة على النحو المشار إليه، وتم اتخاذ الإجراءات القانونية”.
استجداء المارة بالغناء
يعلق المحامي محمد هشام على ما حدث مع تلك الفرقة التي كانت تعزف في مصر الجديدة، بالقول “ما نشر من تحقيقات عن القضية يوضح أن ما قاموا به شكّل إزعاجاً للمواطنين، والسبب في ذلك هو استجداء المارة للحصول على الأموال”.
ويلمح إلى أنه “بنظرة على مواد قانون مكافحة التسول يتبين إمكانية تكييف الواقعة بحسب رغبة محررها وتكييفها على أنها جريمة تسول”، منوهاً إلى أنه أحياناً تسيطر العقلية الأمنية على المجتمع وتتعنت في السماح لهذا النوع من الفن بالاستمرار، وتتجاهل التسول الحقيقي وأشكاله المتنوعة المنتشرة والمستحدثة، فبحسب القانون رقم 49 لسنة 1933 الذي يتكون من خمس مواد تتناول مكافحة التسول، فإنه يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز شهرين كل شخص صحيح البنية ذكراً كان أو أنثى بلغ 15 سنة أو أكثر وجد متسولاً في الطريق العام أو في المحال أو الأماكن العمومية، ولو ادعى أو تظاهر بأداء خدمة للغير أو عرض ألعاباً أو باع أي شيء، والعقوبات أيضاً تشمل من يتصنع الإصابة بجروح أو عاهات أو يستعمل أية وسيلة أخرى من وسائل الغش لاكتساب عطف الجمهور”.
ويلفت المحامي النظر إلى أنه وفقاً لنصوص القانون يمكن اعتبار عازفي الشوارع “متسولين” إذا ساعدهم أو كافأهم المارة بأية أموال، ومن الممكن أن تكون هذه الأموال شكلاً من أشكال تفاعل المواطن مع هذا النوع من الفن.
على النقيض تبدو بعض الشعوب أكثر تساهلاً مع هذه الظواهر، حيث تنتشر في شوارع عدد من المدن اللبنانية وبينها شوارع بيروت وطرابلس، فرق هواة وأيضاً بعض المحترفين مثل فرقة “عازفون” التي تضم موسيقيين متنوعي الآلات، وكذلك هناك هواة يحملون الأورغ أو الناي أو الأكورديون ويتجولون في الشوارع يغنون ويعزفون ويتلقون بعض الأموال في صناديق صغيرة ويتفاعل معهم المارة بشكل إيجابي.
في المغرب، وعلى رغم أن هذا المشهد يقابل بتسامح كبير، فإن الأمر لم يخل من المناوشات كذلك، ففي مطلع شتاء 2018 وتحديداً في الأسبوع الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني)، ضجت البلاد بنبأ القبض على عازفين من فناني الشوارع بعد أن دخلا في سجال مع أفراد الشرطة، وقد انطلقت حينها حملات كبيرة للتعاطف مع هذا الفن عموماً وعدم التعامل معه على أنه جريمة.
والمؤكد أن ظاهرة استعراض الفنون في الميادين والساحات تحمل كثيراً من الخصوصية، إذ يتقابل الجمهور بشكل مباشر مع الموهوبين من دون حواجز أو الاضطرار لحجز تذاكر والوقوف في طوابير انتظار، وهي تعتمد أيضاً على التفاعل عن قرب مع المحتوى المقدم الذي يشكل مادة ثقافية وترفيهية تسهم في تلطيف الأجواء في ظل ظروف تبدو صعبة على الجميع، سواء في ما يتعلق بالهم العام أو الشخصي، لكنها عربياً لا تزال تظهر على استحياء، كما أنها مرهونة بعوامل عدة، أبرزها بالطبع الهاجس الأمني.