عبدالباري طاهر*
منذ بدء التفاوض لإحلال السلام، وتحديدًا منذ لقاء الكويت، ولقاء ظهران الجنوب، مرورًا بجنيف، وعمان، سواء بين الأطراف اليمنية، أو بين أنصار الله (الحوثيين) والسعودية.. تتسم هذه المفاوضات واللقاءات بالتعسر والتصلب في المواقف، وعدم تحقيق نتائج مهمة، كما يلاحظ عليها عدم الاستمرارية والتقطع، والعودة دائمًا إلى نقطة الصفر، والأخطر عدم البناء على ما يتم الاتفاق عليه مسبقًا، وليس في هذا من معنى إلا أن إرادة الحرب لدى أطرافها لا تزال هي الأقوى، أو أن هذه الأطراف تريد أن تحقق بالمفاوضات ما عجزت الحرب عن تحقيقه، وهو صعب إن لم يكن مستحيلاً.
منذ الهدنة في 2/ 4/ 2022م، وتمديدها، والتفاوض يجري من أجل إعطاء الهدنة معنى كرفع الحصار البري والبحري والجوي، وفتح الطرقات، وصرف المرتبات، وتبادل الأسرى، وهي خطوات أساسية لبناء الثقة، وتجنب العودة للحرب، وبث الطمأنينة في نفوس المواطنين.
التعقيد في المشهد، والإصرار على استمرار الحرب، رغم العجز عن الحسم، أسبابه عديدة، أهمها: أن أطراف الحرب كلها لا تستطيع الحصول على ما تريد إلا عبر الحرب، فالأطراف الأهلية لا تعبّر عن الإرادة الشعبية، وهي معزولة، ووسيلتها الوحيدة للتسيّد، وامتلاك الثروة هي امتشاق السلاح، واغتصاب السلطة، أما أطراف الصراع الإقليمي، فمصلحتها في تفكيك البلد، وتمزيقه، ووضع اليمن في مواجهة اليمن؛ ليسهل الابتلاع، وفرض الهيمنة.
الحرب في اليمن وعليه غير معزولة عن الحرب في المنطقة كلها، وهي تجري لنهب الثروات، وربط الأمة العربية بصفقة القرن، كما أن كل أطراف الحرب مصلحتها مرتبطة بالحرب، والسلام لا يلبي مطامحها في الحكم، ونهب الثروات.
للسلام مؤهلات ومطالب لا تتوفر في أطراف الحرب، كما أنها أساس المأساة، فلا يجب أن تكون كل الحل، وليحتفظ كل طرف بما أنجز بالحرب، وبحسب المثل اليمني: “جيد يسلم جيد”، وبحيث لا يستجيب للإرادة والمطالب الشعبية، ويبقى السلام مهددًا ومحصورًا.
لشعبنا مصلحة في الهدنة، وفي إعطائها مضامينها الأساسية نحو تعميق الثقة بين مختلف الأطراف، ورفع الحصار الشامل، وفتح الطرقات، ودفع الرواتب، وتبادل الأسرى، وإطلاق المعتقلين السياسيين، والمخفيين قسريًّا، ومعالجة قضايا الحياة المعيشية للشعب كالماء، والكهرباء، وتلجيم عنف المليشيات المتفلتة، وعقلنة الخطاب، كما أن التخفف من ضغط الصراع الإقليمي والدولي هو الأساس، لتأكيد جدية الهدنة، والتوجه نحو إحلال السلام، وبدء الحوار اليمني؛ لاستعادة اليمن عافيتها، وإعادة بناء ما دمرته الحرب منذ حرب 1994 ضد الجنوب، وحروب صعدة الستة، وحتى يومنا هذا.
مع ثورة الربيع العربي في اليمن برز الخطّان الأساسيان في اليمن والمنطقة العربية كلها:
إرادة الأمة العربية في الخلاص من الفساد والاستبداد، ومن الاحتلال الصهيوني الاستيطاني لفلسطين، والتبعية لأمريكا والاستعمار الغربي، والخلاص من حكم الغلبة والقوة، وبناء حياة مدنية آمنة ومستقرة بعيدًا عن الحروب والصراعات، وكان الربيع العربي الممتد من الماء إلى الماء المؤشر الأهم.
أما الخط الثاني، فهو الأنظمة العسكرية، ودول الخليج مدعومة بأمريكا وأوروبا، ودول الجوار التي عملت على عسكرة الربيع العربي في غير بلد، وقادت إلى حروب مدمرة في سوريا، وليبيا، والسودان، واليمن، وقبلاً العراق.
هذه القوى لا مصلحة لها في السلام، وتريد التعاطي مع السلام بمنطق الحرب، وبميراث الغنائم والاقتسام، فالحرب أداتهم المثلى، ومجدهم الوحيد، أما السلام، فإرادة الأمم والشعوب التي تنشد الحياة، وهو إرادة الأمة العربية والشعب اليمني الذي هو من أكثر أمم وشعوب الأرض احتياجًا للسلام الذي يعني الحياة بكل معانيها.
كانت الحرب ولا تزال الأسلوب الوحيد لدفن الربيع العربي، والخلاص من مخاطره، حيث نرى تماهي الحكم العربي مع إسرائيل في هذه الغاية، فكل حروب إسرائيل منذ أربعينيات القرن الماضي هدفها طرد الشعب الفلسطيني، واستبعاده في أرضه، وتشريده، أما الحكام العرب، فهدفهم الاستنفاع في الحكم، وقمع أيّ دعوات للديمقراطية والعدالة والحرية.
مسؤولية الجماهير الشعبية المتضررة من الحرب، والمجتمعين (المدني والأهلي)، سرعة التحرك للضغط على أطراف الحرب لإعطاء الهدنة البعد السلامي، وإزالة مخلفات الحرب، وتعميق الصلات بين اليمنيين، وعدم الرهان بالمطلق على الإقليمي والدولي، وابتكار الأساليب للتحرك بين المدن والأرياف، والدعوة للتسامح والتصالح، والمشاركة الفاعلة في الحوار، وبناء أسس السلام الدائم.
أسوأ ما عملته هذه الحرب أنها مزقت أواصر القربى، ووضعت المدينة في مواجهة المدينة، والقرية في مواجهة القرية، والقبيلة ضدًّا على القبيلة، والأخ ضد أخيه، كما أنها حشدت المجتمعَين (المدني، والأهلي) في المواجهة ضد بعض، وأسهم الصراع الإقليمي والدولي في تكوين المليشيات المتعادية، لا للتحرر، أو إعادة بناء الشرعية، وإنما لتدمير اليمن، وطمس اسمه، ونهب ثرواته.
المتصارعون على السلطة بالحرب، فقط، فرضوها لسبعة أعوام، وهم يريدون سلامًا يكفل ما لم تنجزه الحرب، لكن مخاطر الحرب لا تزال قائمة وقوية، ومرتبطة بالصراع الإقليمي والدولي، ولا يمكن بناء سلام دائم إلا بامتلاك اليمنيين لإرادتهم، والخلاص من الركون والارتهان للخارج.
شباب اليمن وشاباتها هم الأقدر الآن على كسر حاجز الخوف كما صنعوا في الربيع العربي، وبدء التحرك في الميادين للتلاقي، وتدارس ورصد كل آثار الحرب ومخلفاتها، والسعي للتعافي، وتضميد الجراح، فلا بد من حراك سلامي يغمر الأرض اليمنية كلها، كما أن مسؤولية دعاة السلام النزول للشوارع، والتبشير بالسلام، ودعوة الجماهير لامتلاك الإرادة، والعمل على عودة المشردين والنازحين، ومساعدة الأسر المنكوبة، ووضع الأولويات والتصورات لتحديد احتياجات المناطق المحرومة، وقبل ذلك وبعده عدم
تفرد أطراف الحرب بصيغة تعبّر وتحمي مصالحهم فقط، فهذا معناه استمرار بؤر الحرب والتوتر، واحتمال عودة الحرب.
لضمان القضاء على الحرب وأسباب الصراع، لا بد من حضور ألوان الطيف المجتمعي الأهلي والمدني، والشابات والشباب المستقلين، وشابات وشباب الأحزاب، والفاعلين السياسيين.
إن الأولوية هي وقف الحرب الشامل، وبدء حوار الشمال والجنوب، ثم حوار الشمال والشمال، والجنوب والجنوب، ولا ينبغي الرضوخ لابتزاز أطراف الحرب بأنهم الممثلون الشرعيون والوحيدون لليمن، فهم كل المأساة، وجزء من الحل.
هناك أكثر من مسار للسلام، والأهم المسار الشعبي والوطني العام والذي يتجه إليه الأفراد والأسر والأحياء والقرى والمؤسسات المدنية والأهلية، ويكون مستقلاً عن كل الأطراف، ويكون الوسيلة المثلى للحوار اليمني، وحائط صد أمام أيّ توجه للحرب، أو إثارة قضايا الصراع والفُرقة.
الحضور الشعبي المتنوع والمتعدد وظيفته تلجيم دعاة الحرب، وتنقية الأجواء، وزرع الثقة بالنفوس لاستعادة السلم الأهلي، وحل مختلف القضايا بعيدًا عن أجواء التوتر والحرب، ولا بد لليمنيين أن يصنعوا سلامهم.
*نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق.
عن موقع صحيفة اليمني الأميركي
مرتبط