فاروق يوسف*
المتحف الوطني في صنعاء يفتح أبوابه من جديد بعد إغلاق دام لأكثر من عشر سنوات أولا بسبب الحراك الجماهيري ضد الرئيس الراحل علي عبدالله صالح وثانيا بسبب الحرب القائمة هناك.
من المؤكد أن أن اليمنيين وهم أبناء ثقافة يدركون أن السلم الأهلي لا يحفظ أرواحهم وممتلكاتهم وبلادهم من الدمار حسب، بل يجلب أيضا لهم أموالا تفيض عن حاجتهم وتجعل منهم شعبا مترفا بما يليق بهم وهم يقيمون في متحف كبير.
لا يمثل المتحف الذي يعيد فتح أبوابه مؤقتا ليعرض عدة آلاف من القطع الآثارية سوى نظرة انتقائية عابرة لا تقول شيئا عميقا عن تاريخ بلد احتضن الحضارات والأديان والآداب وبُنيت فيه أعظم المدن في زمن، كانت فيه الاسطورة تمشي بقدميها على الأرض لتعبر عن زهو الإنسان بتفكيره الحضاري.
اليمن لمَن لا يعرفه بلد خيالي خربه الواقع بقبائله وعقائده ومؤامرات ودسائس أبنائه الصغيرة. لقد قيل “لابد من صنعاء” وهو قول ينطوي على الثقة بأن العاصمة اليمنية هي كل شيء وهي الدنيا إن فتحت أبوابها يتمكن الزائر من الولوج إلى حقبات العرب الأولى. هناك مَن يعتقد أن التوراة في نسختها الأولى كُتبت في اليمن وأن قبيلة قريش سكنت في اليمن ولا أحد في إمكانه أن يشكك في أن الملكة بلقيس التي خلبت لب سليمان هي ملكة يمنية.
المذهل في اليمن أن كل شيء لا يزال في مكانه. سبقت اليمن منهاتن في ناطحات سحابها. ذلك سبب كاف لكي يخطط المرء لقضاء عطلته هناك. وهو لا يحتاج إلى آلة لاختراق الزمن. فاليمن فكرته أكبر من وجوده الواقعي، غير أن آثاره تؤكد أن كل ما يُقال عنه هو حقيقي. لا نحتاج إلى البحث عن آثار امرؤ القيس. معلقته تكفي. اليمنيون شعراء غير أنهم للأسف حملة سلاح أيضا. لا يمكن أن يكون السلاح مجرد زينة. أنا على الأقل لا أصدق ذلك. شعب مسلح يعني أن كل شيء ذاهب إلى الحرب.
ذلك ما حدث في اليمن. لقد تم إسقاط نظام علي عبدالله صالح بالتظاهرات السلمية. كان ذلك انجازا عظيما لليمنيين لم يحافظوا عليه. الانقلاب “…..” أفسد كل شيء. صغُر اليمن الذي كان دائما كبيرا وكريما وعزيزا في أعين من زاروه وأقاموا فيه. ذُبح خياله على طاولة قبلية، كانت العقائد الطائفية هذه المرة مادة مطبخها. جهلة وأميون ومتعصبون وفاسدون ونفعيون وانتهازيون وتجار عقائد صاروا سادة وهم مَن َن يقرر فيما إذا كان اليمن سيستمر سعيدا أم أنه سيفتح كتاب كآبته.
هُزم اليمن السعيد حين حل الظلام الطائفي وخسر اليمنيون زمنا عزيزا، كان في إمكانهم فيه أن يعيدوا بناء دولتهم على أسس ديمقراطية ويفتحوا أبواب بلادهم أمام الزائرين ليتيحوا لهم تصفح كتاب تاريخ مختلف شيدته شعوب كانت تفكر حضاريا بطريقة مختلفة عن الشعوب الأخرى. فليس في الصين ولا في الهند ولا في اليونان ولا في روما مَن أتيحت له فرصة الجمع بين الأرض والسماء مثلما حدث لليمنيين في مختلف عصورهم الزاهية.
حضور النقد ضرورة ثقافية
ظلم اليمنيون بلادهم وظلموا أنفسهم. فما الذي تعنيه طائفية قبلية سياسية مقابل حضارة عظيمة تقدم اليمن باعتباره مرجعا للفكر والجمال الإنسانيين؟ ما الذي تقدمه حرب تدفع اليمنيين إلى استجداء لقمة العيش مقابل بلد أخضر هو جنة عدن التي لا يجوع الإنسان فيها ولا يعرى؟ هل عليهم أن يعتذروا من التاريخ لأنهم حرموا البشرية من العودة إلى واحدة من أعظم مرجعياتها. لا شيء في الطائفية أو القبلية ينفع اليمن في العصر الحديث. ما ينفعه أن ينفتح على العالم ويريه واحدة من أسمى انجازاته الجمالية.
لا يقع اليمن في طقوس طائفية ولا في فكر ظلامي صار الكثيرون ينظرون إليه باعتباره مصدرا للكراهية ولا في حروب الأخوة الأعداء التي صارت تتكرر بشكل ممل. بل يقع في حضارته. فهو متحف. ولم تتأسس المتاحف عبثا. ربما كان المتحف الوطني في صنعاء ضروريا لحفظ الآثار الصغيرة ولكن صنعاء وسواها من المدن اليمنية هي متاحف في الهواء الطلق. متاحف لا تزال تحتفظ بسحرها بشرط أن يختفي المسلحون ويصمت صوت الرصاص وتنتهي الحرب.
“اليمن السعيد” تلك عبارة تدعو إلى التهكم الآن ولكنها حقيقية. اليمن سعيد حقا إذا ما عرف أبناؤه قيمته.
*كاتب عراقي