* محمد فائد البكري
ما الذي يعنيه أن تلتحم وجدانيا بفريق كرة، أو لاعبٍ ، أو زعيم أو رمز ديني أو….الخ. وتنحاز له مستقتلا في الدفاع عنه، مستميتا في التعصب له؟!
إنه الاستملاك الرمزي. إنه محاولة الذات تعويض نقصها، والتحايل على عجزها عبر استعارة آخر تستبطن فيه تطلعاتها وأوهامها، وتحاول من خلاله تجسيد ما كانت تتمنى أن تكون أو من ترى فيه انتصارا لرؤيتها أو تحقيقا لحلمها، وهي بما تمارسه من تلبيس لا تدري أنها شيئا فشيئا تتواطأ على نفسها، وترهن تحققها بما تأمل أن يحققه الرمز الذي تستملكه. بل إنها تهرب من مسؤوليتها عن ذاتها، و تستقيل من فردانيتها، متواكلةً على الغير في إنتاج معنى ما لحياتها.
في لعبة كرة القدم يأخذ الاستملاك الرمزي شكلا جماهيريا يتم فيه تظهير الانحياز للفريق الرياضي وليس لجودة اللعب على أنه واجب وطني، ومن هنا يتم تبرير الحماس على أنه منتهى الإخلاص والتفاني في حب الوطن، وهو في حقيقته هياج غرائزي لا يحقق للوطن أي معنى وظيفي، ولا يبني أي معنى للمواطنة.
مجرد حماس لا يختلف عن الحماس لقائد سياسي يدغدغ النرجسية الجماعية الملتبسة بالجغرافيا تحت شعارات الوطنية. أو الحماس لناطقٍ باسم الدين يدغدغ النرجسية الجماعية مستغلا العاطفة الدينية بدعوى الانتصار لدين الله، والامتثال لإرادة الله. كل ذلك الحماس مجانسٌ للحماس القومي في لعبة مصارعة الثيران.
الحماس في كل ذلك حماس يلغي الذات ويحولها إلى رقم يهتف ويصرخ ويهدد ويتوعد ويؤيد دون أن يخطر بباله ما جدوى هذا الفعل. في هذا السياق تتحول الذات إلى مجرد آلة للتصفيق والصفير والزعيق والهتاف والترديد تعبيرا عن التماهي بشخص المُستملك رمزيا، سواءٌ كان شخصا أو فريق كرة. وهكذا يحدث الانسحاق والذوبان في المجموع.
يفسر، ذلك كيف أن الملايين غالبا تظل مجرد قطعان تبحث عن قائدٍ للقطيع، وحتى ما تؤديه من عمل يجري لإرضاء قائد القطيع، وليس شعورا بالمسؤولية تجاه الحياة، وهو ما يفسر كيف تصير الطاعة مقدمة على البحث عن جدوى الفعل.
في لعبة كرة القدم يحدث استملاك رمزي يخرج من طور الرغبة في متعة اللعب إلى طور إرادة التغلب، قد يكون التنافس فعلا ديناميكيا ضروريا لمنح اللعبة حيويتها، لكنه ما يلبث أن ينحدر إلى هاوية الرغبة في الظهور.
من هنا تصير كل ذات مشدودةً متوترة؛ ترى في ذلك الفريق تمثيلا لكينونتها، وتتماهى مع هذا الشعور إلى حد الهوس، وتنسى اللعبة وتأخذ الأمر على أنه مصيري، وكأن الكينونة حينها مفرغة من أي معنى، فالمعنى هو ما يتكوَّن في ميدان الكرة.
وأكثر من هذا أن أي شيءٍ يمس الفريق يغدو مساسا بالذات، وهذا يشبه تماما الاستملاك الرمزي للدين والاعتقاد أن أي نقدٍ له هو مساس بالذات. وفي هذا ما يفسر كيف يغدو أحمد ديدات وذاكر نايك ومن على شاكلتهم منافحين عن الذات المتماهية بالدين. ويغدو الإعجاب بهم ليس إعجابا بحرصهم على إظهار الحقيقة أو تبيين المقصد الإنساني، وإنما رغبة في هزيمة الخصم، لأن هزيمة الخصم انتصار للذات وتمكين لزهوها.
الاستملاك الرمزي يحدث في حياتنا كثيرا وعلى مستويات مختلفة، وله شواهد عديدة منها الاستملاك الرمزي للحضارة، ويتجسد ذلك بالإدعاء والتمدح بتراث الأسلاف، و محاباة الذات بمزاعم الانتماء إلى حضارة عريقة.
ومثله تسويق أوهام التفوُّق بمجرد الانتماء إلى سلالة أو عرق أو دين أو مذهب أو حزب معين أو فئة من المجتمع أو مهنة معينة.
كل محاولة استملاك رمزي تستبطن شعورا فادحا بالإفلاس، فالذات المفلسة تلجأ لتمويه إفلاسها وعجزها عن الإنجاز، بمحاولات استملاك رمزية.
