هل أضاع النقاد العرب بوصلتهم في زمن التواصل الاجتماعي؟
1 min read
انطوان أبو زيد*
هل كان يضير بشيء لو أن الإنسان فطر على الانتقاد بالمعنى الإيجابي والسلبي، أي لو كان وهب القدرة على إطلاق الأحكام الصحيحة في كل ما يبدر له من ظواهر، لا سيما الفنون والآداب، التي تعد دليلاً أكيداً على رقي البشرية، وبلوغها مرتبة من النضج ووعي الوجود والذات، والفكر، ما لم تبلغه في مسارها الإنساني الطويل؟
وبناء عليه، هل يمكن القول إن الانتقاد الثقافي في الصحافة يمر بأزمة، مطلع العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين؟ وهل الأزمة تطاول الغرب وحده، ولا يمسها الشرق، بل العالم العربي بأحد أصابعه؟ لا يكفي القول إن في الغرب آلاف الجرائد التي خصت الثقافة بمادة من موادها، وآلاف أخرى من المجلات، وإن بين الأخيرة العشرات من المجلات ذات الاهتمام الثقافي والأدبي الصرف. ومع ذلك، يجد المعنيون والقراء على السواء أن الهوة آخذة في الاتساع بين الانتقاد الأكاديمي الذي يجريه الباحث على الأدب، وبين الانتقاد الصحافي الذي يجريه امرؤ مكلف مراجعة منتج ثقافي، أياً يكن شعراً، أو سرداً، أو مسرحاً، أو فنوناً مختلفة، ويقاربه بأقل معارفه ومهاراته، حتى لتخلو المقالة الثقافية، على هذا النحو، من إشراق المقالة السياسية، أو من راهنيتها، وجدتها، وموضوعية كاتبها، وسعة اطلاعه.
مشكلة معايير
للإجابة عن السؤال عن الأسباب المؤدية إلى أزمة في الانتقاد الثقافي، من ضمن أزمة الثقافة التي سلطت الفيلسوفة حنة آرندت أضواءها الكاشفة عليها(في كتابها “أزمة الثقافة” نسأل ثانية: هل تكفي إعادة الاعتبار للمعايير الواجب اعتمادها في هذا الانتقاد حتى يتحسن الانتقاد، وتعلو مكانة الثقافة في نظر العامة؟
أول المعايير الموضوعية التي نراها لازمة لأي ناقد يسعى إلى استخراج تصور عن عمل أدبي، أو ما يدعوه شيخ النقاد العرب عبد القاهر الجرجاني، البعد عن الهوى. وهذا يعني أن يكبح الكاتب رغبته في إسداء خدمة لأحد المقربين، أو لتقريب أحد البعيدين، عبر الكتابة عن إنتاج هذا الأحد، وتقريظه ما أمكن. ولعل هذا ما أشارت إليه جويل شميدت في مقالتها عن أزمة النقد الثقافي في وسائط الإعلام (مجلة برسيه، لعام 2000)، إذ أكدت تنامي هذا الهوى، بل المصالح الشخصية لكاتب المقالة، أو مقدم الكتاب في الوسيلة الإعلامية المرئية أو المسموعة، إلى حد يستحيل إنكاره.
ثاني المعايير حسن انتقاء العمل الثقافي أو الأدبي أو الفني، ليكون ممثلاً لنوعه، أو للفئة المجتمعية التي ينتمي إليها، وهذا الأمر يفرض على العامل الثقافي، أو الناقد الثقافي أن يكون على اطلاع واسع بأغلب النتاج الثقافي الواقع في إطاره المكاني ليتسنى له انتقاء أجود الموجود وأجمله. يقابل هذا المعيار واقع باتت تشهده الشاشات، ووسائل الإعلام، وأدوات التواصل الاجتماعي الكثيرة هذه الأيام، من ترويج لأعمال لا ترقى إلى الأدب، ولا تمت إلى الفن بأي صلة، وتدنو من جمالية التفاهة والخشونة التي نبهت حنة آرندت الغرب من طغيانها على الثقافة فيه، منذ أواخر ستينيات القرن الماضي.
ثالث المعايير وأهمها أن يحوز المعارف النقدية اللازمة التي تخوله الإحاطة شبه الوافية بالعمل الفني أو الأدبي، معرفة لا تستلزم بالضرورة إعداداً أكاديمياً سابقاً، ولكن لزوم تحصيلها واجب عليه، حتى يتسنى له توصيف العمل بناء على مفاهيم ومصطلحات باتت متداولة في مصادرها الورقية والإلكترونية. وقد تلي التوصيف أحكام تتصل بمدى جودة العمل، وحمله معاني وقضايا، وأبعاداً تكون خافية عن أعين القراء البسطاء أو غير المتطلبين. نقول هذا، ونحن نشهد في عالمنا العربي، أقله، تنامياً مطرداً لأنصاف العارفين، ممن تيسر دخولهم إلى الإعلام والصحافة كيفما اتفق، والذين يدورون الشاشات من حولهم، وأذهانهم لا تقوى على التعامل الحي مع المنتج الثقافي المسقط بين أيديهم. ومن هذه المعارف الاتجاهات النقدية (من قدامة بن جعفر، إلى فردينان دوسوسور، مروراً بمدارس التحليل الأسلوبية والفلسفية، والنفسية، والبنيوية، والرموزية، والخطابية، وغيرها)، على أن يمتنع عن ذكر أي من مصطلحات هذه الاتجاهات، انسجاماً مع طبيعة النص الصحافية، وتماشياً مع الطريقة التبسيطية غير السطحية التي ينبغي للصحافة الثقافية اعتمادها.
ورابع المعايير أن يكون قارئاً، لا أن يحسن فك رموز الأحرف والكلمات التي تتشكل منها (وهذا يحسنه الأطفال في سنة دراستهم الأولى) وإنما أن يتمكن من قراءته قراءة خلاقة، تتيح له تحليل النص المقروء، في حال كان العمل الثقافي نصاً أدبياً أو مرجعياً ذا قيمة كبرى، واستخلاص أهم خصائصه، وأفكاره، ونوعه، وصلاته بغيره من النصوص، بالتداعي أو بالتناص، وإدراك فرادته في السياق الزمني الذي ينتمي إليه. ولو كان لدينا قراء على هذه المرتبة، من عاملي الثقافة في بلادنا، لما كان الإبداع الحقيقي يشقى، مع مبدعه، ولا كان المتداولون بالمنتج الثقافي، ورقياً كان أم لوحة أم غير ذلك، أحسن حالاً من المبدعين. هذا من دون أن ننسى تدهور الأوضاع المعيشية في كثير من البلدان العربية، لأسباب أمنية وسياسية شتى، الذي يسهم، بشكل غير مباشر، في إدامة هذا الواقع المسيء للثقافة والإبداع.
وخامس المعايير أن يكون المنتقد كاتباً بلغة عربية ناصعة، وقادراً على تطويع لغته، بحيث يتمكن من تعليل أحكامه المبنية على معرفة شاملة، بانورامية، ومعمقة في مجالها، وينشرها بإتقان على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى مواقع الصحافة الورقية أو الإلكترونية، وذلك بخلاف الصورة التي أطلقها أمبرتو إيكو عن الكائن الغبي المتربص بمواقع الإنترنت، الذي يطيب له “إبداء رأيه في عمل أدبي أو فني بالأريحية نفسها التي للأديب الحائز نوبل للآداب”! ولو أن أمثال هذا الأخير أكثر عدداً، وأن النقاد الكتاب “الذين يمارسون نقداً أدبياً حقيقياً، ويعيدون الاعتبار لجوهر ما في الأدب قلة” على ما تقول الكاتبة الفرنسية بريجيت جيرو (1960) الحاصلة على جائزة غونكور لعام 2022، عن كتابها “الحياة أسرع”.
ندرة النقاد وأزمة الانتقاد
وقبل هذا الزمن، أوائل القرن التاسع عشر، هل كان يمكن لأديب أو شاعر أو فنان مبتدىْ أن يباشر إبداعه من دون أن يُمر ناقد مكين قلمه في عمله الأدبي، أو الفني، فتكون كلمته إذناً بالعبور إلى القراء والمجد والسيرورة؟ وفي هذا الشأن، لا يبالغ الكاتب الشهير شارل أوغستان سانت بوف (1804-1869) الذي هيمن حضوره النقدي على الساحة الأدبية، على امتداد النصف الأول من القرن التاسع عشر، الناقد نتاج الشعراء فيكتور هوغو، وبول فيرلين، ولامارتين، وبودلير، وتيوفيل غوتييه، وغيرهم، إذ يخلص إلى القول في عز مسيرته النقدية عام 1845: “إن أحكامنا التي أطلقناها على الأدب، كان أحرى بها أن تحكمَ علينا، أكثر مما تحكم لنا”. فهل يعني هذا الأمر أن النقد الأدبي الممارس في الصحافة لم يؤد الغاية المرجوة منها؟ أم أن المنابر الصحافية التي كانت قائمة، بازدهار العشرات من المجلات الثقافية في حينه، كانت تفرض نمطاً معيناً أقرب ما يكون إلى الترويج للأعمال الأدبية منه إلى نقدها وتقويمها؟ أم أن أزمة الانتقاد بذاتها تكشف عن تحديات جديدة ينبغي التنبه لها، وليس أقلها جمهور القراء، والوسائط الإعلامية والصحافية التي تنقل الانتقاد، وطبيعة أنواع النصوص المنتقدة المتغيرة على الدوام، وغيرها.
ولكن، ما نفع كل هذه المعايير أو الكفايات إن كان الناقد الذي سبق وصفه نادر الوجود، “ويشقى مجتمع الثقافة لإيجاده” على ما يقول الأديب جوليان غراغ (1910-2007)؟ وهل كان المجتمع العربي إبان النهضة والحداثة، في أربعينيات القرن الماضي أكثر احتفالاً بالنقاد منه في عشرينيات هذا القرن؟ وهل كنا لنجد أمثال الأديب والناقد محمد لطفي جمعة (1886-1953) يوم بين للقراء بطلان ادعاء توفيق الحكيم الابتكار في مسرحياته المقتبسة، وأفكاره (أهل الكهف) المنقولة عن القرآن الكريم، وغيرها من الهنات؟ ولئن كان وجد أمثال له، في غير بلد عربي، فقد صرفه التعليم الأكاديمي، نظير أنطون غطاس كرم (1919-1979)، وعبد الواحد لؤلؤة (1931-)، وسلمى الخضراء الجيوسي (1926-2023)، وغالي شكري (1935-1998)، وغيرهم ممن سطروا لهم مداخلات نقدية لا تجارى في المجلات الأدبية والجرائد ذات الصفحة الثقافية المستجدة في العالم العربي في حينه.
حدود النقد وانطباعية الأدباء
ومع إقرارنا بما ينبغي أن تكون عليه صورة المنتقد، أو الناقد الأدبي والفني، من مهارات ومعارف، أوردناها سالفاً، تبقى ثمة حدود لا يمكن أن يتجاوزها النقد، للدواعي التي أشرنا إليها، ولأن للنص الانتقادي مجالاً أضيق بكثير من مجال الدراسة النقدية الأكاديمية، وأقل منها إحاطة لجوانب النص المنتقد، أو الظاهرة الفنية المنتقدة.
أما كتابات الأدباء والشعراء (من غير الأكاديميين) النقدية، سواء في مراجعاتهم، أو مقدمات أعمالهم أو أعمال غيرهم الأدبية، فلا تعدو كونها، برأينا، انطباعات نقدية، وإن تكن عميقة أو مشربة بمراجع فكرية وفلسفية وعلمية ذات قيمة.
وإلى أن يستعيد العرب ميزانهم النقدي، ويتكون لديهم عديد من النقاد الموسوعيين وذوي الاقتدار، سوف يظلون مترجحين بين قطبين في النقد: التقريبي المحدود، والانطباعي الأدبي.