د. عصام واصل*
تشهد الجامعات الحكومية في اليمن عزوفًا كبيرًا عن الإقبال عليها في كل التخصصات عمومًا، وفي التخصصات الإنسانية خصوصًا، وهذا العزوف يطرح جملة من التساؤلات، ويثير قلقًا نابعًا من الخوف على مستقبل هذه الجامعات، ومِن ثَمّ على مستقبل التعليم كله في اليمن. وقد يُرجع بعض المتابعين هذا العزوف إلى أسباب متعددة، منها الظروف المادية والأمنية المتدهورة الناتجة عن الحرب في اليمن، التي تؤثر بشكل كبير على قدرة الطلاب على متابعة دراستهم، لكن الأسباب ليست كذلك قطعًا وإن كانت توهم بذلك للوهلة الأولى.
إنّ المُلاحِظَ للوضع، وواقع التعليم الجامعي في اليمن، خلال السنوات الأخيرة، يجد أن جملة من الأسباب قد تبدو وجيهة وراء هذا العزوف، لا سيما في ظل غياب الدراسة الفاحصة لذلك، لكن المُلاحِظ الحصيف أيضًا يجد أن ثمة إنشاءً لجامعات وكليات ومراكز ومعاهد أهلية بكثافة لافتة للنظر، ومثيرة للريبة وكثير من التساؤلات، لا سيما أنّ الواقع المحلي لا يحتمل إنشاء مثل هذا الكم المهول من الجامعات -خصوصًا في المحافظات التي تتوفر فيها جامعات حكومية ذات أهمية في كادرها وفي تخصصاتها المتوفرة- ولا في طاقتها الاستيعابية.
وبالتزامن مع هذا الإنشاء الكثيف يُلاحظ انكماشٌ كثيفٌ في الإقبال على الجامعات الحكومية بكل كلياتها العلمية والتطبيقية والإنسانية؛ إذ وصل الانكماش في بعض الكليات العلمية والتطبيقية إلى 70%، والإنسانية إلى 95%، ووصل في بعض الأقسام إلى 100%، بل وصل الأمر إلى أن عدد المتقدمين في بعض الكليات لا يتجاوز 10 متقدمين في أقسامها كلها، وهي الكليات التي كان يتقدم فيها عدد لا يقل عن أربعة آلاف طالب مثلًا، وهذا كله لصالح الجامعات والكليات الأهلية، والطبية منها على وجه الخصوص.
تقرير.. الوصمة تضاعف عدد مرضى الاضطرابات وتغلق تخصصات الصحة النفسية في اليمن
إنّ الناظر في طبيعة الجامعات الأهلية المنشأة في العشر السنوات الأخيرة، عمومًا، وفي الخمس السنوات الأخيرة خصوصًا، يجد أنها ذات طبيعة طبية، والناظر في المخرجات مؤخرًا من هذه الكليات والجامعات والمراكز والمعاهد سيجد أنها قد أغرقت السوق المحلية بالصيادلة والأطباء والمخبريين والفنيين، حتى إن معظم المتخرجين صاروا يعانون من البطالة، وبالنظر إلى هذه المخرجات أيضًا نجد أنّ الطلبة ما يزالون يُقبلون على التعليم بكثافة منقطعة النظير، لكن على التخصصات الطبية دون غيرها، وذلك يدل على أن ثمة حدثًا خطيرًا يحصل في البلد، ليس على الجامعات الحكومية فقط، بل على المتعلمين أنفسهم، وعلى السوق المحلية التي تتكدس فيها هذه المخرجات الطبية، وعلى مستقبل التعليم برمته.
إن ما يحدث -في الآونة الأخيرة- يطرح سؤالًا جوهريًّا، مفاده: هل يعدُّ مثل هذا الصنيع تدميرًا ممنهجًا لواقع التعليم الجامعي في البلد؟
ولا يتوقف الأمر عند هذا السؤال فحسب، بل تتفرع منه تساؤلات كثيرة، منها مثلًا: هل يعد هذا الصنيع إغراقًا للسوق بمخرجات لا يُحتاج إليها بأي شكل من الأشكال؟ وهل يدل ذلك على أنّ ثمة خلقًا غير مبرر للكساد، والبطالة، وتعويمًا للوضع التعليمي كلّه؟ وهل يعني ذلك -أيضًا- أن ثمة تدميرًا وإخلاءً قسريًّا للسوق من التخصصات الإنسانية المهمة جدًّا؟!
ومع ذلك كله، يجد الملاحِظُ لهذه الحالة المربكة أنّ كثيرًا من المتسائلين ما يزالون لا يعون جيدًا السببَ المحوري وراء تراجع الإقبال على الجامعات الحكومية مؤخرًا، وضعف الإقبال الكلي على الكليات الإنسانية ومعظم الكليات العلمية والتطبيقية؛ لأنّهم لم يقرؤوا المشهد بدقة فاحصة، لا سيما في ظل غياب الإحصائيات الدقيقة عن عدد المعاهد والكليات والجامعات الأهلية في اليمن كله، ولا عن المخرجات التي تتخرج منها كل عام.
إنّ غياب الإحصائيات -على أهميتها- لا يقدم ولا يؤخر بالنظر إلى الإنشاء المستمر للجامعات الأهلية، والإقبال الكبير عليها، وبالنظر إلى الكساد الكبير في السوق لمخرجات هذه الجامعات، لكن بالمقابل يعد ذلك مؤشرًا كبيرًا على أنّ السبب الحقيقي الكامن وراء هذه المعضلة لا يعود إلى عدم قدرة بعض الطلبة على دفع الرسوم الدراسية في الجامعات الحكومية، ولا إلى الحرب ونتائجها على البلد برمته، ولا إلى الفقر الناتج عن هذه الحرب التي دامت ثماني سنوات وما تزال تلقي بظلالها على كل شيء، فهذا تبسيط مخلٌّ للموضوع؛ لأنّنا لو تأملنا في هذه المسألة سنجد أنّ التعليم في الجامعات الحكومية مجانيٌّ تمامًا إلا من رسوم زهيدة يدفعها الطالب سنويًّا للتسجيل وتجديد التسجيل، وهو ما يعني أنّ هذه الفرضية مستبعدة تمامًا، وأن انتشار الجامعات الأهلية والتخصصات الطبية هو السبب المحوري وراء ذلك.
إذن، لا يمكن ربط العزوف عن الجامعات الحكومية بظروف الطلبة وفقر أولياء أمورهم، ولا بنتائج الحرب وتبعاتها، فالطلبة يتقدمون بكثافة للالتحاق بالجامعات الأهلية، ونسبة غير المتقدمين للتعليم هي النسبة ذاتها التي كانت تحدث من قبل، فلا علاقة للأمور المادية أو الفقر أو الحالة النفسية الناتجة عن تبعات الحرب بها، إن المسألة متعلقة بتفريخ الجامعات الأهلية وما في حكمها بهذا الكم المبتذل وغير المدروس.
مقال مقترح.. عن الملل الانساني العميق الذي اختلف حوله الفلاسفة
منذ زمن طويل، كان التعليم يحظى بهيبة وجلال يشعر به الطلبة المتقدمون، وكان المتقدمون يحسبون ألف حساب لكل خطوة يقدمون عليها في هذا الجانب، أما الآن فبإمكان أي طالب التوجه إلى أي معهد أو جامعة أو كلية أهلية والتسجيل فيها دون اهتمام بأي معايير متعلقة بالقَبول وما يستتبعه من تفاصيل إلا ما ندر، وهو ما أفقد التعليم هيبته ومكانته، وأفقد الجامعات كذلك هيبتها ومكانتها، فضلًا عن أن التعليم الحكومي قد صار، نتيجة لذلك، يترنح وهو قاب قوسين أو أدنى من السقوط والاندثار، صحيح أنّ الجامعات الأهلية مصدر دخل للقائمين عليها والمتواطئين مع تفريخها، لكنها تخدش شرف التعليم وتصيبه في مقتل.
إنّ إنشاء الجامعات الأهلية وما في حكمها، بهذا الكم الكبير، يتطلب من الجهات المعنية وقفة جادة لمعالجة هذا الخلل الجوهري، وإعادة النظر في كل ما يحدث، ومن ثَمّ اتخاذ خطوات عملية صارمة وجادة قبل فوات الأوان، وقبل انهيار التعليم كله حكوميًّا وأهليًّا، وربط ذلك كله بسياسة الدولة التي لا تقبل مثل هذا الخلل بكل تأكيد.
*أكاديمي في جامعة ذمار