ناصر عراق*
إذا تعاملت مع شاب لطيف مهذب لمّاح نشيط حنون متسامح عفيف النفس حلو المعشر، فاعلم أن نصيب والدته من هذه الخصال الطيبة كبير وعظيم، وإذا أسعدك الحظ فأوقع في طريقك فتاة رقيقة ذكية طيبة القلب نشيطة جادة تصون العشرة تحفظ بيتها وزوجها من أجل أبنائهما، تمتلك مهارات الإنصات إلى الآخرين، فلا تقاطعهم ولا تستخدم الألفاظ الخشنة في حديثها، فتيقن أنها ورثت الكثير من هذه الصفات الرائعة عن والدتها الطيبة.
أما إذا عاقبتك المقادير وطرحت أمامك شابًا خبيثا أنانيًا حقودًا فظا غليظ القلب لا تعرف الرحمة طريقا إلى قلبه، فأغلب الظن أنه ورث تلك السمات البائسة عن السيدة والدته، وإذا مررت بحياتك بفتاة كذوب بليدة أنانية تخون العشرة بخيلة المشاعر سوداء القلب لا تتورع عن تدمير أبنائها نفسيًا بضيق أفقها، فالاحتمال الأكبر أنها ورثت تلك السلوكيات التعسة عن والدتها.
وفقا لما قاله لي الدكتور طلعت مطر استشاري الطب النفسي بمستشفى رأس الخيمة بالإمارات، فإن أطباء النفس الآن يولون الجانب الوراثي أهمية كبيرة في تشخيص الأمراض النفسية، بعد أن توصل علماء الوراثة إلى أن الإنسان يرث عن والدته نحو 70% من الجينات، كما أن هناك أيضًا نحو 10% يرثها المرء من جينات أسرة والدته، بينما لا يرث عن أبيه وأسرته سوى 20% فقط تقريبًا!.
لعل هذه المعلومات الخاصة بالدور المتعاظم للوراثة في سلوك البشر تفسر لنا لماذا لم ينجب بعض العباقرة من الرجال أبناء يتمتعون بالعبقرية نفسها التي حظي بها آباؤهم أو حتى ربعها، فأبناء المتنبي وشوقي وعبدالوهاب وغيرهم ليس لهم علاقة بما أنجزه آباؤهم، إذ يبدو أن أمهاتهم لم يتمتعن بما تمتع به الآباء من مواهب مدهشة.
في كتاب (نجيب محفوظ… صفحات من من مذكراته وأضواء جديدة على حياته وأدبه) يحكي صاحب نوبل 1988 للأستاذ رجاء النقاش عن أن والدته كانت تصحبه وهو طفل لزيارة المتاحف: المصري والقبطي والإسلامي! ولكن حين فاز الرجل بجائزة نوبل أعلنت ابنتاه في حوار تليفزيوني أنهما لم تطالعا أي رواية لأبيهما، وأظن أن السبب يعود إلى أن أمهما لم تكن ذات اهتمام بالأدب وفنونه!.
لا يغيب عن ذكاء القارئ أن ثمة عوامل أخرى تفعل فعلها في سلوكيات البشر غير الجينات مثل البيئة والمجتمع ممثلا في المدرسة والجامعة وأماكن العمل، كما أن الجينات الوراثية نفسها قد تتعرض لطفرة هنا أو هناك تقلب الموازين في سلوك الابن أو الابنة، لكن يظل فهم دور الجينات واستيعابه بالغ الأهمية لتفسير تصرفات الناس الطيبة أو الشريرة.
من حسن الطالع أنني تعاملت عن قرب مع بشر كثيرين عرفت أمهاتهم وآباءهم جيدًا، فهالني حجم التشابه في السلوك، إيجابًا وسلبًا، بين الابن وأمه، وبين البنت ووالدتها، فتذكرت قول الشاعر: (الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق).