مارك ليونارد*
في مارس (آذار) ومع نهاية زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى موسكو، وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على باب الكرملين لتوديع صديقه، وقال شي لنظيره الروسي إنه “في الوقت الحالي ستطرأ تغييرات لم نشهد مثلها منذ 100 عام، ونحن من نقود هذه التغييرات معاً”، فأجاب بوتين مبتسماً “أوافقك الرأي”.
كانت اللهجة الطاغية غير رسمية لكن هذا الحديث لم يكن مرتجلاً، وأصبحت عبارة “تغييرات لم نشهد مثلها منذ قرن من الزمان” من شعارات شي المفضلة منذ أن صاغها في ديسمبر (كانون الأول) 2017.
ورغم أنها قد تبدو عبارة عامة فإنها تلخص بدقة طريقة التفكير الصينية المعاصرة في النظام العالمي الناشئ، أو بالأحرى “اللانظام”، ومع ازدياد قوة الصين حاول صناع السياسة والمحللون الغربيون تحديد نوع العالم الذي تريده الصين، ونوع النظام العالمي الذي تهدف بكين إلى بنائه بقوتها، ولكن بات من الواضح أن الاستراتيجيين الصينيين عوضاً عن محاولة تعديل النظام الحالي بصورة شاملة أو استبداله بشيء آخر، شرعوا في الاستفادة على أفضل وجه من العالم كما هو في وضعه الحالي أو كما سيصبح في القريب العاجل.
وفي الوقت الذي يحاول فيه معظم القادة وصانعي السياسات الغربيين الحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد، وربما تحديث الميزات الرئيسة وإدماج جهات فاعلة إضافية، فإن الاستراتيجيين الصينيين يوضحون بصورة متزايدة أن هدفهم هو الصمود في عالم بلا نظام، وفي الواقع تعتقد القيادة الصينية، بدءاً من شي ووصولاً إلى القيادات والمناصب الأدنى مستوى، أن بنية النظام العالمي التي أنشئت في أعقاب الحرب العالمية الثانية أصبحت غير ملائمة، وأن محاولات الحفاظ عليها لا تجدي نفعاً، وبدلاً من السعي إلى إنقاذ النظام تستعد بكين لفشله.
ورغم أن الصين والولايات المتحدة تتفقان على أن نظام ما بعد الحرب الباردة قد انتهى فإنهما لا تراهنان على النظام الجديد نفسه الذي قد يحل مكانه، ففي واشنطن يعتقد أن عودة المنافسة بين القوى العظمى تتطلب تجديد التحالفات والمؤسسات في صميم نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي ساعد الولايات المتحدة في الانتصار خلال الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، ويهدف هذا النظام العالمي المحدّث إلى دمج كثير من دول العالم تاركاً الصين وعدداً من أهم شركائها، بما في ذلك إيران وكوريا الشمالية وروسيا، معزولين عن العالم الخارجي.
لكن بكين واثقة من أن جهود واشنطن ستكون عقيمة، وفي نظر الاستراتيجيين الصينيين فإن بحث البلدان الأخرى عن سيادتها وهويتها لا يتوافق مع تشكيل تكتلات على غرار تلك التي كانت قائمة في الحرب الباردة، وسيؤدي عوضاً عن ذلك إلى عالم متعدد الأقطاب وأكثر انقساماً يمكن للصين أن تأخذ مكانها فيه كقوة عظمى.
في النهاية قد تكون نظرة بكين أكثر دقة من نظرة واشنطن وأكثر توافقاً مع تطلعات الدول ذات الكثافة السكانية الأعلى في العالم، وفي الحقيقة لن تنجح استراتيجية الولايات المتحدة إذا كانت تتمثل في مسعى غير مجد يرمي إلى تحديث نظام متلاش يدفعه التوق الشديد والحنين إلى تماثل واستقرار شهدتهما حقبة من الماضي، وفي المقابل تستعد الصين لعالم تحدد معالمه الفوضى وعدم التناسق والتشرذم، عالم أبصر النور وبدأ يتجلى في نواح كثيرة.
بكين الناجية
كشف الاختلاف الشديد في رد الفعل الذي أبدته كل من الصين والولايات المتحدة على الغزو الروسي لأوكرانيا عن تباين في تفكيرهما، فالرأي السائد في واشنطن هو أن تصرفات روسيا تشكل تحدياً للنظام القائم على القواعد الذي يجب تعزيزه رداً على ذلك، أما في بكين فالرأي السائد هو أن الصراع يظهر أن العالم يدخل فترة من الفوضى ستحتاج الدول إلى اتخاذ خطوات لتحملها.
وهناك دول عدة تشارك الصين منظورها، بخاصة في الجنوب العالمي، الذي يعتبر أن ادعاءات الغرب بأنه يعزز النظام القائم على القواعد هي مزاعم تفتقر إلى الصدقية، ولا يقتصر الأمر ببساطة على أن حكومات كثيرة لم يكن لها رأي في إنشاء هذه القواعد وبالتالي تعتبرها غير شرعية.
وفي الواقع أن المشكلة أعمق من ذلك، فهذه الدول تعتقد أيضاً أن الغرب طبق معاييره بصورة انتقائية وعدلها في صورة متكررة بما يتلاءم مع مصالحه الخاصة، أو كما فعلت الولايات المتحدة عندما غزت العراق عام 2003، حين تجاهل تلك المعايير بكل بساطة.
وبالنسبة إلى كثيرين خارج الغرب فلطالما كان الحديث عن نظام قائم على القواعد غطاء للقوة الغربية، ويؤكد هؤلاء النقاد أنه بعد أن بدأت القوة الغربية في التراجع الآن فمن الطبيعي أن يخضع هذا النظام للتعديل بطريقة تعزز سلطات الدول الأخرى وصلاحياتها.
ومن هنا جاء ادعاء شي بأن “تغييرات لم نشهد مثلها منذ قرن من الزمان” قادمة، وهذه الملاحظة واحدة من المبادئ التوجيهية في “فكر شي جينبينغ” الذي أصبح الأيديولوجية الرسمية للصين، إذ يعتبر شي هذه التغييرات جزءاً من اتجاه لا رجوع فيه نحو التعددية القطبية في ظل صعود الشرق وانحدار الغرب، وقد ازدادت سرعة هذا الاتجاه بسبب التحولات التكنولوجية والديموغرافية. وتتمثل رؤية شي الأساس في أن ما يحدد معالم هذا العالم في صورة متزايدة هو الفوضى لا النظام، ويعود هذا الوضع في رأيه للقرن الـ 19 الذي يشكّل حقبة أخرى تتميز بعدم الاستقرار العالمي والتهديدات الوجودية للصين.
عامان على سلطة طالبان.. دعوة أممية إلى ضمان الحقوق في أفغانستان
وخلال العقود التي أعقبت هزيمة الصين على يد القوى الغربية في حرب الأفيون الأولى عام 1839، كتب المفكرون الصينيون، بمن فيهم الدبلوماسي لي هونغ تشانغ، الذي يشار إليه أحياناً باسم “بسمارك الصين” [أوتو فون بسمارك]، عن “تغييرات كبيرة لم نشهدها منذ أكثر من 3 آلاف عام”، وقد لاحظ هؤلاء المفكرون بقلق التفوق التكنولوجي والجيوسياسي لخصومهم الأجانب، الأمر الذي افتتح ما تعتبره الصين الآن قرناً من الإذلال، واليوم يرى شي أن الأدوار معكوسة، فالغرب هو الذي يجد نفسه الآن على الجانب الخطأ من التغييرات المصيرية، فيما تحظى الصين بفرصة للظهور كقوة عاتية ومستقرة.
كذلك ثمة أفكار أخرى تعود للقرن الـ 19 شهدت نهضة في الصين المعاصرة، ومن بينها الداروينية الاجتماعية التي طبقت نظرية تشارلز داروين عن “البقاء للأقوى” على المجتمعات البشرية والعلاقات الدولية.
وفي عام 2021، على سبيل المثال، نشر “مركز البحوث من أجل نظرة شاملة للأمن القومي” Research Center for a Holistic View of National Security، وهو هيئة مدعومة من الحكومة مرتبطة بوزارة الأمن الصينية، كتاباً بعنوان “الأمن القومي في غمرة صعود القوى العظمى وسقوطها” National Security in the Rise and Fall of Great Powers، بقلم الخبير الاقتصادي يونتشنغ جانغ، يدعي الكتاب وهو جزء من سلسلة تشرح قانون الأمن القومي الجديد، أن الدولة مثل كائن بيولوجي يجب أن يتطور وإلا سيموت، وأن التحدي الذي تواجهه الصين هو البقاء على قيد الحياة.
وقد ترسخ هذا النمط من التفكير في ذلك السياق، وأخبرني أحد الأكاديميين الصينيين أن الجغرافيا السياسية اليوم هي “صراع من أجل البقاء” بين القوى العظمى المستضعفة وتلك المنغلقة [المنطوية] على ذاتها، وهذا بعيد كل البعد من الرؤى التوسعية والتحويلية للقوى العظمى في الحرب الباردة.
وقد تبنى شي هذا الإطار، كما أن البيانات الحكومة الصينية كثيراً ما تأتي على ذكر “الصراع من أجل البقاء”، وهي فكرة موجودة في الخطاب الشيوعي لكنها تظهر أيضاً في الكتابات الداروينية الاجتماعية.
وفي الواقع يستلزم مفهوم البقاء والصمود في عالم خطر تطوير ما يصفه شي بأنه “نهج شامل للأمن القومي”، وخلافاً لمفهوم “الأمن العسكري” التقليدي الذي اقتصر على مواجهة التهديدات من البر والجو والبحر والفضاء، فإن النهج الشامل في ما يتعلق بالأمن يهدف إلى مواجهة جميع التحديات، سواء كانت تقنية أو ثقافية أو بيولوجية.
وفي عصر العقوبات والانفصال الاقتصادي والتهديدات الإلكترونية يعتقد شي أن كل شيء يمكن تحويله إلى سلاح، ونتيجة لذلك لا يمكن ضمان الأمن من خلال التحالفات أو المؤسسات المتعددة الأطراف، وبالتالي يجب على البلدان أن تبذل كل ما في وسعها من أجل حماية شعوبها.
ولهذه الغاية ففي عام 2021 دعمت الحكومة الصينية إنشاء مركز بحوث جديد كرسته لهذا النهج الشامل، وكلفته بالنظر في جميع جوانب استراتيجية الأمن الصينية، وفي عهد شي صار ينظر إلى الحزب الشيوعي الصيني (CCP) بصورة متزايدة على أنه درع واق من الفوضى.
رؤى متضاربة
يرى القادة الصينيون أن الولايات المتحدة تشكل التهديد الأكبر لبقائهم، وقد وضعوا فرضية تشرح أفعال خصومهم، وتعتقد بكين أن واشنطن تستجيب للاستقطاب الداخلي وفقدانها للقوة العالمية من خلال تصعيد منافستها مع الصين، ووفقاً لوجهة النظر هذه فقد قرر قادة الولايات المتحدة أن الصين ستصبح عاجلاً أم آجلاً أقوى من الولايات المتحدة، ولهذا السبب تحاول واشنطن تأليب بكين ضد العالم الديمقراطي بأسره. ومن هذا المنطلق يتحدث المثقفون الصينيون عن تحول الولايات المتحدة من التعاون والاحتواء الجزئي إلى “المنافسة الكاملة”، ويشمل ذلك السياسة والاقتصاد والأمن والأيديولوجيا والتأثير العالمي.
راقب الاستراتيجيون الصينيون الولايات المتحدة وهي تحاول استخدام الحرب في أوكرانيا لتعزيز الانقسام بين الأنظمة الديمقراطية وتلك الاستبدادية، وحشدت واشنطن شركاءها في دول مجموعة السبع وحلف شمال الأطلسي، ووجهت دعوة إلى الحلفاء في شرق آسيا للانضمام إلى اجتماع الـ “ناتو” في مدريد، وأقامت شراكات أمنية جديدة، بما في ذلك تحالف “أوكوس” AUKUS، وهو اتفاق ثلاثي بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، وتحالف “كواد” QUAD (الحوار الأمني الرباعي) الذي يجمع بين أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة. وتشعر بكين بخاصة بالقلق من أن انخراط واشنطن في أوكرانيا سيجعلها أكثر حزماً في شأن تايوان، وفي ذلك الإطار قال أحد العلماء إنه يخشى أن تقوم واشنطن تدريجياً بالاستغناء عن سياسة “الصين الواحدة” التي توافق الولايات المتحدة بموجبها على اعتبار جمهورية الصين الشعبية الحكومة الشرعية الوحيدة لتايوان وبر الصين الرئيس، واستبدالها بنهج جديد أطلق عليه أحد المتحدثين الصينيين تسمية “صين واحدة وتايوان واحدة”.
وفي الصين ينظر إلى هذا النوع الجديد من إضفاء الطابع المؤسسي على العلاقات بين الولايات المتحدة وشركائها ويهدف ضمنياً أو بصورة علنية إلى احتواء بكين، على أنه محاولة أميركية جديدة لبناء تحالف يجمع بين الشركاء الأطلسيين والأوروبيين وأولئك الذين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ويعتقد المحللون الصينيون أن هذا مثال آخر على اعتقاد الولايات المتحدة الخاطئ بأن العالم يقسم نفسه مرة أخرى إلى كتل.
وبما أن كوريا الشمالية هي الحليف الرسمي الوحيد لها، فلا يمكن للصين أن تكسب معركة التحالفات لكنها سعت إلى الاستفادة من عزلتها النسبية ومن الاتجاه العالمي المتزايد نحو عدم الانحياز الذي أظهرته القوى المتوسطة والاقتصادات الناشئة، وعلى رغم أن الحكومات الغربية تفتخر بحقيقة أن 141 دولة دعمت قرارات الأمم المتحدة التي تدين الحرب في أوكرانيا، إلا أن مفكري السياسة الخارجية الصينيين، بمن فيهم أستاذ العلاقات الدولية والمعلق الإعلامي تشو شولونغ، يجادلون بأن عدد الدول التي تفرض عقوبات على روسيا هو مؤشر أفضل لقياس قوة الغرب.
وبالاستناد إلى هذا المقياس يحسب شولونغ أن الكتلة الغربية تضم 33 دولة وحسب، في مقابل 167 دولة ترفض المشاركة في محاولة عزل روسيا، وفي الواقع هناك عدد كبير من هذه الدول لديه ذكريات سيئة عن الحرب الباردة، فهي فترة قوضت فيها القوى العظمى المتنافسة سيادة تلك الدول. ووفق ما أوضحه لي أحد المحللين الاستراتيجيين البارزين في السياسة الخارجية الصينية، فإن “الولايات المتحدة ليست في تراجع لكنها ليست بارعة سوى في التحدث إلى الدول الغربية، والفارق الكبير بين الآن والحرب الباردة هو أن الغرب [في ذلك الوقت] كان فعالاً للغاية في تعبئة الدول النامية ضد [الاتحاد السوفياتي] في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأفريقيا”.
ومن أجل الاستفادة من تراجع النفوذ الأميركي في هذه المناطق سعت الصين إلى إظهار دعمها لدول الجنوب العالمي، وعلى النقيض من واشنطن التي تقوم في نظر بكين بإرهاب الدول وإرغامها على الانحياز إلى طرف معين، فإن الصين في علاقاتها وتواصلها مع العالم النامي أعطت الأولوية للاستثمارات في البنية التحتية، وقد فعلت ذلك من خلال مبادرات دولية بدأ تطوير بعض منها بصورة جزئية، ومن بينها مبادرة “الحزام والطريق” ومبادرة “التنمية العالمية” التي تستثمر مليارات الدولارات من أموال الحكومة والقطاع الخاص في البنية التحتية والتنمية في البلدان الأخرى، وبعضها الآخر جديد بما في ذلك مبادرة “الأمن العالمي” التي أطلقها شي عام 2022 لتحدي الهيمنة الأميركية.
وتعمل بكين أيضاً على توسيع منظمة شنغهاي للتعاون، وهي مجموعة أمنية ودفاعية واقتصادية تضم جهات فاعلة رئيسة في أوراسيا، بما في ذلك الهند وباكستان وروسيا، وهي الآن في طور قبول إيران.
عالقة في الماضي
إن الصين واثقة من أن الولايات المتحدة مخطئة في افتراضها أن حرباً باردة جديدة قد اندلعت، وبناء عليه فهي تسعى إلى تجاوز الانقسامات الشبيهة بتلك التي كانت في الحرب الباردة، وعلى حد تعبير وانغ هونغ غانغ، وهو مسؤول كبير في مؤسسة فكرية تابعة لوزارة أمن الدولة الصينية، فإن العالم يبتعد من “مفهوم المركز والأطراف الهامشية في الاقتصاد والأمن العالميين، ويتحرك نحو فترة من علاقات التنافس والتعاون المتعددة المراكز”.
لا ينكر وانغ والعلماء الذين يشاطرونه طريقة التفكير نفسها أن الصين تحاول أيضاً أن تصبح مركزاً في حد ذاتها، لكنهم يجادلون بأنه نظراً إلى أن العالم يخرج من فترة الهيمنة الغربية، فإن إنشاء مركز صيني جديد سيؤدي في الواقع إلى تعددية أكبر في الأفكار لا إلى نظام عالمي صيني، ويربط عدد من المفكرين الصينيين هذا الاعتقاد بالوعد بمستقبل يشهد “تنوعاً في الحداثة”، وهذه المحاولة الرامية إلى خلق نظرية بديلة في ما يتعلق بالحداثة، على النقيض من الصورة التي أعطيت في فترة ما بعد الحرب الباردة للديمقراطية الليبرالية والأسواق الحرة باعتبارها مثالاً للتطور الحديث، هي في صميم مبادرة الحضارة العالمية الخاصة بشي.
ويهدف هذا المشروع الرفيع المستوى إلى الإشارة إلى أنه خلافاً للولايات المتحدة والدول الأوروبية التي تعظ الآخرين حول مواضيع مثل تغير المناخ وحقوق مجتمع الميم، فإن الصين تحترم سيادة القوى الأخرى وحضارتها.
لعقود كانت علاقة الصين مع العالم تركز في صورة كبيرة على الجانب الاقتصادي، لكن دبلوماسية الصين اليوم لا تقف عند مسائل التجارة والتنمية، وأحد أبرز الأمثلة على هذا التحول وأكثرها تأثيراً وإيضاحاً هو دور الصين المتنامي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد كانت هذه المنطقة تحت سيطرة الولايات المتحدة في السابق، ولكن مع انسحاب واشنطن تحركت بكين لتحل مكانها.
دول غربية تحذر السفن من “المياه الإيرانية
في مارس الماضي حققت الصين إنجازاً دبلوماسياً كبيراً من خلال التوسط في هدنة بين إيران والسعودية، في حين أن المشاركة الصينية في المنطقة كانت في يوم من الأيام مقتصرة على دورها كمستهلك للمواد الهيدروكربونية وشريك اقتصادي، وأصبحت بكين الآن صانعة سلام منشغلة ببناء علاقات دبلوماسية وحتى عسكرية مع أهم الجهات الفاعلة، كما ينظر بعض العلماء الصينيين إلى الشرق الأوسط اليوم على أنه “مختبر لعالم ما بعد أميركا”، وبعبارة أخرى يعتقدون أن المنطقة هي الشكل الذي سيبدو عليه العالم بأسره خلال العقود القليلة المقبلة، مكان يشهد منافسة على النفوذ بين القوى العالمية الأخرى، مثل الصين والهند وروسيا، في ظل تراجع الولايات المتحدة، وتقوم فيه القوى الوسطى مثل إيران والسعودية وتركيا باستعراض قوتها وقدراتها.
ويشك غربيون كثر في قدرة الصين على تحقيق هذا الهدف، ويرجع ذلك في الغالب لأن بكين تجد صعوبة في كسب المتعاونين المحتملين، ففي شرق آسيا تتقرب كوريا الجنوبية من الولايات المتحدة، وفي جنوب شرق آسيا تعمل الفيليبين على تطوير علاقات أوثق مع واشنطن لحماية نفسها من بكين، وظهر رد فعل عنيف مناهض للصين في عدد من البلدان الأفريقية، حيث انتشرت الشكاوى في شأن سلوكها الاستعماري.
وعلى رغم أن بعض الدول، بما في ذلك السعودية، ترغب في تعزيز علاقاتها مع الصين، إلا أن ما يدفعها في الأقل جزئياً إلى فعل ذلك هو رغبتها في دفع الولايات المتحدة إلى تنشيط العلاقات معها مجدداً، لكن هذه الأمثلة ليس من المفترض أن تحجب الاتجاه [النمط] الأوسع المتمثل في أن بكين تزداد نشاطاً وطموحاً بصورة مطردة.
عجلات إضافية وتقييد حركة الخصم
تحتدم المنافسة الاقتصادية أيضاً بين الصين والولايات المتحدة، وقد توقع كثير من المفكرين الصينيين أن يؤدي انتخاب الرئيس الأميركي جو بايدن عام 2020 إلى تحسين العلاقات مع بكين، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل، فلقد كانت إدارة بايدن أكثر عدوانية تجاه الصين مما توقعوا، وشبّه أحد كبار الاقتصاديين الصينيين حملة الضغط التي شنها بايدن على قطاع التكنولوجيا الصيني وتشمل عقوبات على شركات التكنولوجيا الصينية وشركات تصنيع الرقائق، بإجراءات الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضد إيران، وجادل عدد من المعلقين الصينيين بأن رغبة بايدن في إيقاف تطور بكين التكنولوجي من أجل الحفاظ على تفوق الولايات المتحدة لا تختلف عن جهود ترمب الرامية إلى منع طهران من تطوير أسلحة نووية، وقد ظهر إجماع في بكين على أن هدف واشنطن ليس جعل الصين تلتزم بالقوانين بل منعها من النمو.
هذا غير صحيح، لقد أوضحت واشنطن والاتحاد الأوروبي أنهما لا ينويان استبعاد الصين من الاقتصاد العالمي، ولا يريدان فصل اقتصادهما بصورة كاملة عن اقتصاد الصين، وبدلاً من ذلك فهما يسعيان إلى ضمان عدم حصول أي تبادل ومشاركة للتقنيات الحساسة بين شركاتهما وبكين، وتقليل اعتمادهما على الواردات الصينية في القطاعات الحيوية، بما في ذلك الاتصالات السلكية واللاسلكية والبنية التحتية والمواد الخام، وبالتالي تتحدث الحكومات الغربية بصورة متزايدة عن الإنتاج القائم على “إعادة التوطين” و”دعم الأصدقاء” في مثل هذه القطاعات، أو في الأقل تنويع سلاسل التوريد من خلال تشجيع الشركات على تركيز الإنتاج في بلدان مثل بنغلاديش والهند وماليزيا وتايلاند، وكان رد شي على ذلك هو ما يسميه “التداول المزدوج” [الدورة المزدوجة].
وعوضاً عن التفكير في الصين على أنها تمتلك اقتصاداً واحداً مرتبطاً بالعالم من خلال التجارة والاستثمار، ابتدعت بكين فكرة الاقتصاد المتشعب الذي يكون النصف الأول منه، القائم على الطلب المحلي ورأس المال والأفكار، متمحوراً حول “التداول الداخلي” [المحلي]، مما يجعل الصين أكثر اعتماداً على نفسها من حيث الاستهلاك والتكنولوجيا والأنظمة، فيما يدور النصف الآخر، وهو “التداول الخارجي”، حول علاقات الصين الانتقائية مع بقية العالم، وفي الوقت نفسه حتى مع تقليل اعتمادها على غيرها، تريد بكين تعزيز اعتماد الجهات الفاعلة الأخرى على الصين حتى تتمكن من استخدام هذه الروابط لزيادة قوتها وممارسة الضغط، وهذه الأفكار لديها القدرة على إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي.
شرح الخبير الاقتصادي الصيني المؤثر يو يونغدينغ مفهوم التداول المزدوج انطلاقاً من مفهومين جديدين، “العجلة الاحتياطية” و”تقييد حركة الخصم”، وباتباع مفهوم “العجلة الاحتياطية” يجب أن يكون لدى الصين بدائل جاهزة إذا فقدت الوصول إلى الموارد الطبيعية والمكونات والتقنيات الحيوية، وقد جاءت هذه الفكرة رداً على زيادة العقوبات الغربية المفروضة التي تراقبها بكين بقلق، وتعمل الحكومة الصينية الآن على حماية نفسها من أية محاولات لعزلها في حال حدوث صراع من خلال القيام باستثمارات هائلة في التقنيات الحيوية، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات. لكن بكين تحاول أيضاً استغلال الواقع الجديد من أجل تقليل اعتماد الاقتصاد العالمي على الطلب الاقتصادي الغربي والنظام المالي الذي تقوده الولايات المتحدة، وفي الداخل يعمل الحزب الشيوعي الصيني على تشجيع التحول من النمو القائم على التصدير إلى النمو القائم على الطلب المحلي، وفي أماكن أخرى يروج لليوان كبديل للدولار، وبناء على ذلك يزيد الروس احتياطاتهم باليوان، ولم تعد موسكو تستخدم الدولار في أعمالها التجارية مع الصين، كما وافقت “منظمة شنغهاي للتعاون” أخيراً على استخدام العملات الوطنية وليس الدولار وحسب، في التعاملات التجارية بين الدول الأعضاء فيها.
وعلى رغم محدودية هذه التطورات يأمل القادة الصينيون في أن يؤدي استخدام النظام المالي الأميركي كسلاح والعقوبات الهائلة ضد روسيا إلى مزيد من الفوضى وزيادة استعداد الدول الأخرى للتحوط ضد هيمنة الدولار.
أما حركة “الكماشة” أو “تقييد حركة الخصم” فهي استعارة مأخوذة من رياضة المصارعة، وهذا يعني أنه على بكين أن تجعل الشركات الغربية تعتمد على الصين مما يجعل الانفصال أكثر صعوبة، وهذا هو السبب وراء عملها على إلزام أكبر عدد ممكن من الدول بالنظم والقواعد والمعايير الصينية.
في الماضي كافح الغرب لجعل الصين تقبل قواعده، والصين عازمة الآن على جعل الآخرين يذعنون لقواعدها، وقد استثمرت بكثافة في تعزيز صوتها في مختلف الهيئات المكلفة بوضع المعايير الدولية، كما تستخدم بكين أيضاً مبادرة “التنمية العالمية” ومبادرة “الحزام والطريق” لتصدير نموذجها الخاص برأسمالية الدولة المدعومة والمعايير الصينية إلى أكبر عدد ممكن من البلدان.
وفي حين كان هدف الصين في السابق هو الاندماج في السوق العالمية، أدى انهيار النظام الدولي بعد الحرب الباردة وعودة حال الفوضى على غرار تلك التي كانت موجودة في القرن الـ 19 إلى تغيير نهج الحزب الشيوعي الصيني، ولذلك استثمر شي بصورة كبيرة في الاعتماد على الذات، ولكن بحسب ما يشير إليه مفكرون صينيون كثر فإن التغييرات في المواقف الصينية تجاه العولمة كانت مدفوعة بالتحديات الاقتصادية المحلية، بقدر ما كانت مدفوعة بالتوترات مع الولايات المتحدة، وفي الماضي كانت القوى العاملة الصينية الضخمة والشابة والمنخفضة الكلفة هي المحرك الرئيس لنمو البلاد، والآن يتزايد عدد سكانها الذين في سن الشيخوخة بسرعة، وتحتاج إلى نموذج اقتصادي جديد يكون مبنياً على زيادة الاستهلاك، وكما يوضح الخبير الاقتصادي جورج ماغنوس فإن القيام بذلك يتطلب رفع الأجور وإجراء إصلاحات هيكلية من شأنها أن تخل بميزان القوى المجتمعية الدقيق في الصين، وستتطلب إعادة إحياء النمو السكاني، على سبيل المثال، تحسينات كبيرة في نظام الضمان الاجتماعي القديم وغير المتطور في البلاد الذي بدوره يتعين دفع كلفه من خلال الزيادات الضريبية التي لا تلقى شعبية كبيرة. ويستلزم تعزيز الابتكار تقليص دور الدولة في الاقتصاد، وهو ما يتعارض مع غرائز شي، لذا فمن الصعب تصور حدوث مثل هذه التغييرات في الظروف الحالية.
عالم منقسم
بين عامي 1945 و1989 كان إنهاء الاستعمار والانقسام بين القوى الغربية والكتلة السوفياتية هو ما رسم شكل العالم، ولقد تبددت الإمبراطوريات وتحولت إلى عشرات الدول، غالباً نتيجة حروب صغيرة، ولكن على رغم أن إنهاء الاستعمار قد غيّر معالم الخريطة إلا أن المنافسة الأيديولوجية في الحرب الباردة كانت القوة الأكثر تأثيراً، وبعد حصولها على الاستقلال سرعان ما انقسمت معظم الدول بين الكتلتين الديمقراطية أو الشيوعية، وحتى الدول التي لم ترغب في اختيار طرف ما، حددت هويتها بالاستناد إلى الحرب الباردة وشكلت “حركة عدم الانحياز”.
الاتجاهان واضحان اليوم، وتعتقد الولايات المتحدة أن هذا التاريخ يعيد نفسه، ويحاول صناع السياسة إحياء الاستراتيجية التي نجحت ضد الاتحاد السوفياتي، ولذلك فهي تقسم العالم وتحشد حلفاءها، وفي المقابل لا توافقها بكين الرأي وتنتهج سياسات تتناسب مع رهانها على أن العالم يدخل حقبة يتفوق فيها تقرير المصير والتعددية على الصراع الأيديولوجي.
من المرجح أن يكون تقدير بكين دقيقاً لأن العصر الحالي يختلف عن حقبة الحرب الباردة في ثلاث نواحٍ أساس، أولاً أن أيديولوجيات اليوم أضعف بكثير، فبعد عام 1945 قدمت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي رؤى مستقبلية متفائلة ومقنعة جذبت النخب والعمال في جميع أنحاء العالم، وليس لدى الصين المعاصرة رسالة مماثلة، وقد ضعف المفهوم الأميركي التقليدي الخاص بالديمقراطية الليبرالية بصورة كبيرة بسبب حرب العراق والأزمة المالية العالمية عام 2008 ورئاسة دونالد ترمب، وكلها أمور جعلت الولايات المتحدة تبدو أقل نجاحاً وسخاء وموثوقية، وعلاوة على ذلك فبدلاً من تقديم أيديولوجيات مختلفة ومتعارضة بصورة صارخة، تتشابه الصين والولايات المتحدة بصورة متزايدة في مسائل عدة، من السياسة الصناعية والتجارة إلى التكنولوجيا والسياسة الخارجية، ومن دون رسائل أيديولوجية قادرة على تكوين تحالفات دولية لا يمكن تشكيل تكتلات على غرار تلك التي كانت موجودة خلال الحرب الباردة.
ثانياً لا تتمتع بكين وواشنطن بالهيمنة العالمية نفسها التي تمتع بها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة بعد عام 1945، وفي عام 1950 كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الرئيسيون (دول الـ “ناتو” وأستراليا واليابان) والعالم الشيوعي (الاتحاد السوفياتي والصين والكتلة الشرقية) يشكلان معاً 88 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أما اليوم فهذه المجموعات من البلدان مجتمعة لا تمثل إلا 57 في المئة فقط من إجمال الناتج المحلي العالمي، وفي حين أن النفقات الدفاعية لدول عدم الانحياز كانت ضئيلة أواخر ستينيات القرن الماضي (حوالى واحد في المئة من الإجمالي العالمي)، فهي الآن تبلغ 15 في المئة وتتزايد بسرعة.
ثالثاً يتسم عالم اليوم بالترابط الشديد والاعتماد المتبادل، ففي بداية الحرب الباردة كان هناك عدد قليل جداً من الروابط الاقتصادية بين الغرب والدول التي تقع وراء الستار الحديدي، والوضع اليوم مختلف تماماً، ففي حين أن التجارة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ظلت تسجل نسبة واحداً في المئة تقريباً من إجمال تجارة البلدين خلال السبعينيات والثمانينيات، فإن التجارة مع الصين اليوم تشكل ما يقارب 16 في المئة من إجمال الميزان التجاري للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ويحظر هذا الترابط تشكيل تحالف مستقر بين الكتل مثل ذاك الذي كان في الحرب الباردة، والأكثر ترجيحاً هو حال توتر دائمة وتغير في الولاءات.
لقد وضع قادة الصين رهاناً استراتيجياً جريئاً من خلال الاستعداد لعالم مجزأ، ويعتقد الحزب الشيوعي الصيني أن العالم يتجه نحو نظام ما بعد الغرب، ليس بسبب تفكك الغرب بل لأن توحيد الغرب أدى إلى عزل عدد من البلدان الأخرى، وفي لحظة التغيير هذه قد تكون رغبة الصين الصريحة في السماح للدول الأخرى باستعراض عضلاتها قادرة على جعل بكين شريكاً أكثر جاذبية من واشنطن التي تطالب بتقارب أوثق وأكثر من أي وقت مضى، وإذا كان العالم يدخل حقاً مرحلة من الفوضى فمن الممكن أن تكون الصين في أفضل وضع للازدهار.
● مارك ليونارد، مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ومؤلف كتاب “فيم تفكر الصين؟” وكتاب “عصر اللاسلام: في أن الصراع وليد التواصل”.
مترجم عن فورين أفيرز، يوليو/أغسطس 2023
المادة عن موقع “اندبندنت عربية“