يعود ظهور فن الرواية في العالم العربي إلى ترجمة الأعمال الأوروبية التي شهدت زخماً مثيراً للإعجاب منذ منتصف القرن التاسع عشر. فتعلقت الترجمات الأدبية الأولى بأعمال قريبة من أنواع الأدب العربي الكلاسيكي مثل خرافات لافونتين (ترجمها إلى المصرية عثمان جلال [١٨٥٧م]) ومغامرات تيليماك لفينلون (ترجمة رفاعة الطهطاوي [١٨٦٧م]). ثم أتت حركة مهمة للترجمة الخاصة، حيث تم تحويل النصوص الأجنبية («المقتبسة»، «الممصرة»، «المعربة») لجعلها متوافقة مع القواعد الجمالية والأخلاقية التي تحكم التعبير باللغة العربية. ويعتبر مصطفى لطفي المنفلوطي ( ١٨٧٦م -١٩٢٤م) مثالاً جيدًا لهذه الظاهرة من خلال ترجمات التي نجد فيها تصرفاً كبيراً يصل لحد التحويل مثل : (مجدولين)، ١٩١٢م (ترجمة ألفونس كار، سوس ليتيلول)؛ (في سبيل التاج)، ١٩٢٠م (فرانسوا كوبيه)؛ (الشاعر) (إدموند روستاند، سيرانو دي برجراك)، (الفضيلة) (برناردين دي سان بيير، بول وفيرجيني). يؤكد ريتشارد جاكيموند على أن القيمة الأدبية الخاصة جدًا لهذا المؤلف تجعله بين الروائيين وليس بين المترجمين:
« من بين مئات الترجمات من هذا النوع، حققت ترجمات مصطفى لطفي المنفلوطي نجاحًا استثنائيًا : أعيد نشرها باستمرار في مصر وأماكن أخرى حتى يومنا هذا، وقُدمت أحيانًا كأعمال أصلية (قد يشار فيها إلى المؤلف الأصلي في الغلاف من الداخل بشكل غير بارز أو يحذف تمامًا)، يتم إبعادها عن طريق النقد المشروع ويتم التعامل معها من قبل الجمهور، وأحيانًا حتى من قبل النقاد، كجزء لا يتجزأ من إبداعات الأدب العربي الحديث. »
فعلى سبيل المثال، نجد نفس صورة هذا المترجم “المحول” عدة مرات بين شخصيات ثلاثية نجيب محفوظ، التي تستحضره ككاتب:
«كان [كمال] يؤمن بذلك إيمانًا عميقًا لا يتزعزع: كما يومن بكفالة الآراء السامية التي يطلع عليها في مؤلفات رجال يحبهم ويعتز بهم : مثل المنفلوطي والمويلحي وغيرهما.»
إن المساهمة الأساسية لهذه المرحلة من ترجمة وتطويع الأعمال الأجنبية للإبداع الروائي العربي لا تعكس في الواقع رغبة المترجمين أو المحولين في خلق إبداع روائي شخصي، بل في إعداد أرضية تمهيدية يقدم من خلالها فن الرواية لجمهور كان معتادًا فقط على الاستماع إلى الشعر وقراءة النثر. وبالتالي فإن الترجمات “الحرة” تعكس الحالة الذهنية للمترجم الذي يتجاوز هدفه الترجمة في حد ذاتها : فهو يفكر في قارئه وليس في النص المراد ترجمته. وهكذا،نجد حافظ إبراهيم ( ١٨٧٢م – ١٩٣١م)، مترجم رواية البؤساء، الذي كان يفهم الفرنسية بصعوبة وهو يُدخل صورة مجتمعه في الرواية ونرى تانوس عبده “مترجمًا غزير الإنتاج” وهو يقرأ الرواية ويعيد صياغتها ويبدأ في كتابة القصة باللغة العربية دون الرجوع إلى الأصل .
علاوة على ذلك، يجب أن نتذكر الطفرة اللغوية الكبيرة التي أحدثها ما يسمى “التكيف المتبادل” لأنه ينقل خاصية القدرة على محاكاة الواقع وتمثيله بما يعرف ب le vraisemblable لدى الأوروبيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ونتيجة لذلك بدأت اللغة بالتشكل لتكون قادرة على تمثيل الواقع والشخصيات العربية. بمعنى آخر، إنها فترة يحاول فيها السرد العربي التوفيق بين الأشياء التي يصورها. تعلق الأمر بالاقتباس الروائي “التمثيل المحاكى”. إن فكرة رواية التمثيل المحاكى هذه ستترسخ ثم تتطور في الأدب العربي منذ اللحظة التي يبدأ فيها المؤلفون العرب بالاستفادة من الرواية الأوروبية للنموذج الذي تقدمه وليس للقصة التي تحكيها. وينبع هذا الاهتمام من الرغبة في بناء هوية وطنية وهي المرحلة التي عنونت حقبة استيراد نماذج روائية أوروبية مختلفة، وأهمها نموذج الرواية التاريخية.
خلق الاستعمار البريطاني لمصر عام ١٨٨٢م في أعقاب ثورة عرابي ، أرضًا خصبة للمؤلفين العرب الذين جربوا فن الرواية الأوروبية مع تفضيل الرواية التاريخية المميزة لفترات البناء الوطني . بالنسبة لعامي ١٨٩٠م و ١٩٠٠م يمكن أن نذكر العناوين التالية: (جادة الأندلس، ١٨٩٣م – ١٨٩٤م) لعبد الرحمن إسماعيل، (عذراء الهند، ١٨٩٧م). ) لأحمد شوقي، (فتاة إسرائيل،١٩٣٠م) و(شهيد الجلجلة، ١٩٠٥م)، وهي سلسلة روايات (لم تستمر) عن تاريخ المسيحية للمؤلف عبد المسيح الأنطاكي، (أورشليم الجديدة أو فتح العرب بيت المقدس،١٩٠٤م) لفرح أنطون، (أمير لبنان، ١٩٠٧م) ليعقوب صروف، (خديجة، أم المؤمنين، ١٩٠٨م) لعبد الحميد الزهراوي، أو أخيراً (الرشيد والبرامكة، ١٩١٠م) للأب أنطون رباط.
وكان معظم هؤلاء المؤلفين يتبعون ببساطة الطريق الذي فتحه جورجي زيدان، الكاتب السوري اللبناني الذي هاجر إلى مصر في نهاية القرن التاسع عشر. وفي الواقع، فإن هذا الأخير هو الذي قاد، من خلال رواياته الاثنين والعشرين، المشروع الأكثر نجاحًا وجعل هذا النوع من الأدب شائعًا في العالم العربي. رواياته الأولى: (المملوك الشريد، 1891)، (أسير المتمهدي، 1892) و(استبداد المماليك، ١٨٩٢م – ١٨٩٣م). كما تشهد روايته (أرمانوسة المصرية، ١٨٩٥م – ١٨٩٦م) على اهتمامه بتاريخ مصر، ليس فقط الحديث بل البعيد أيضًا، كما هو الحال بالنسبة لهذا العمل الأخير الذي يعود بالزمن إلى الوراء ليستحضر فتح مصر على يد المسلمين على يد القائد عمرو بن العاص في القرن السابع الميلادي الأول الهجري.
بعد تلك الرواية خطرت لزيدان فكرة دوريات الرواية (السلسلة) التي من شأنها أن تعطي القراء بانوراما واسعة عن التاريخ الإسلامي. ويعكس هذا المشروع الدور الإصلاحي والتربوي للكاتب العربي والذي سيتأكد في بداية القرن التالي. زيدان، وهو قبل كل شيء مؤرخ أدبي، يستخدم النموذج الأوروبي، الرواية التاريخية، لتثقيف القارئ العربي. ويسد مشروعه فجوة سببتها كتب التاريخ العربي التي يصعب على القارئ العربي العادي الوصول إليها من جهة، ومن جهة أخرى عدم قدرة المؤرخ الأوروبي على إعطاء صورة مرضية لهذا القارئ، كما يقول زيدان:
« […] هناك بالفعل ما نجده في أعمال الباحثين الأوروبيين، لكن هؤلاء بشكل عام يلخصون الحقائق دون إشباع كل فضول القارئ. ولا داعي لإلقاء اللوم عليهم لأن الموضوع بعيد عن اهتماماتهم ولا علاقة له بدولتهم ودياناتهم وعاداتهم وتاريخهم. اللوم علينا نحن الذين نستحقه، نحن أبناء اللغة (العربية) الذين تركنا الأوروبيين يسبقوننا في البحث في تاريخ بلادنا وأمتنا وعاداتنا وأخلاقنا. »
يرى جورجي زيدان في الرواية التاريخية تمهيداً يهدف إلى السماح للقراء بالوصول إلى الأعمال التاريخية التي تكون صعبة في البداية:
« بقدر ما يحبون التاريخ والحكايات، نادرًا ما يتحلى الناس بالصبر لقراءة كتاب تاريخ كبير، حتى النهاية، دون توقف. ومن ناحية أخرى، إذا قدمنا لهم التاريخ في شكل رواية، فسوف يقرؤونه بلذة وشغف… هكذا نجهز عقولهم لقراءة [كتب] التاريخ. »
كما يرى فرح أنطون، في مقدمة كتابه (اورشليم الجديدة)، أنه ينافس كتب التاريخ من خلال فن أدبي يسمح بفعل ما لا يستطيع كتاب التاريخ القيام به:
« إن هدف الرواية التاريخية […] هو سد الثغرات في التاريخ. ونعني بـ “سد فجوات التاريخ” أن يضع المؤلف نفسه في مكان الشخصيات التاريخية، وأن يكون المتحدث باسمهم، وأن يعبر عن أفكارهم وآرائهم، في المواقف التي يتخيلها لهم، ولكن تلك التي لم تترك أثراً في التاريخ، مستعيناً بما يعرفه عنهم في ذلك. »
إن اختيار فن الرواية التاريخية يعتبره المؤلفان السوريان اللبنانيان وسيلة لتحقيق غاية أنبل: إكمال سرد التاريخ وجعله معروفاً لعامة الناس وهو الهدف الذي ربما تم تحقيقه : إذ كشفت إحصائيات أُجريت في بداية القرن العشرين في مصر أن الرواية تحتل المركز الأول بين الأعمال التي يقرؤها الجمهور المصري، متقدمة بفارق كبير على كتب الدين والتاريخ . ومع ذلك، فإن مقاربة جورجي زيدان وفرح أنطون تطرح مشكلة مساحة المتخيل في أعملهم وبالتالي مشكلة الخيال. يؤكد جورجي زيدان في مقدمة رواية الحجاج بن يوسف أنه عمل مؤرخ: فالرواية في خدمة التاريخ وهي مجرد وسيلة جذابة للقارئ. بالنسبة له، تعتبر رواياته التاريخية مراجع مثل كتب التاريخ، على الرغم من أن الشخصيات التاريخية تخضع لإعادة بناء تمزج بين المصادر التاريخية والخيال. وهي فكرة يأخذها المؤلفان على محمل الجد في رواياتهما من خلال دمج بعض التدابير التي تسمح بالفصل بين المتخيل والتاريخ، مثل الحواشي التي تشير إلى المصادر التاريخية. وهذا ما يفعله زيدان بشكل رئيسي. أما أنطون فيحدد في مقدمة الرواية المذكورة أعلاه ويقول:
« خوفاً من رؤية التاريخ وما لا علاقة له يختلط ويضلل القراء، في وخاصة الأقل خبرة، استخدمنا العلامات المطبعية لفصل التاريخ عن المتخيل. »
إذا نظرنا عن كثب إلى بنية روايات جورجي زيدان، نجد أن كل عمل يتمحور حول حلقة مشهورة في تاريخ الإسلام ويعج بتفاصيل العادات والحياة اليومية والثقافية لتلك الفترة. هذه التفاصيل مأخوذة من الأعمال العربية الكلاسيكية، وكما هو الحال في قصص الحب الكلاسيكية، فإن هذه الروايات تتكشف دائمًا وفقًا لنفس النمط: شابان، جميلان وذكيان ومتعلمان، يريان حبهما يُحبط بالذات بسبب جبن عدد من رجال الحاشية. هذه الأولوية الواضحة التي أعطيت للمؤرخ على حساب الكاتب الروائي تُبين سبب الجودة المتواضعة لروايات هذا المؤلف السوري اللبناني.
ومع ذلك، فإن روايات جورجي زيدان التاريخية، على الرغم من هدفها التعليمي الصريح، تعكس محاولة معينة لخلق هوية جامعة للعرب من خلال الخلق الروائي لـ “مجتمع متخيل” بالرجوع إلى التاريخ الإسلامي. ومع ذلك، يمكننا أن نتصور مدى تعقيد هذه المهمة بالنسبة ل”مسيحي” عربي لا يدعي أن عمله يحمل بعداً مجازياً فيما يتعلق بالوضع السياسي المعاصر. بمعنى آخر، لم يكن جورجي زيدان مناصراً للحركات القومية المصرية في ذلك الوقت مثل حركة عرابي في نهاية القرن التاسع عشر ومصطفى كامل في بداية القرن العشرين، كما توضح آن لور دوبونت:
« […] لم تكن تحفظاته تجاه أحمد عرابي أقل من تلك التي كانت لديه تجاه مصطفى كامل، مما جعل [زيدان] بلا شك أكثر من برز بين القوميين المصريين. ولكي نكون أكثر دقة، فإن حكم زيدان على عرابي يجب أن يُفهم في ضوء حكمه على مصطفى كامل. ومن خلال الحديث عن رجلين بنفس المصطلحات، قلل من تقدير عمق الوطنية المصرية منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، والتي نضجت منذ زمن “الثورة العرابية”. وبينما كانت الاضطرابات في ثمانينيات القرن التاسع عشر لا تزال تشتمل على عنصر كراهية الأجانب الغريزي، شهدت تسعينيات القرن التاسع عشر وعقد القرن العشرين ظهور وطنية أكثر بناءاً، تعتمد على الدفاع عن الأمة المصرية التي أصبحت واعية لذاتها. وليس من المؤكد أن زيدان فهم المدى الكامل للتطورات أو شعر بالاستياء المتزايد لدى الرأي العام المصري ضد البريطانيين. »
هذه الخلفية السياسية الغائبة عند جورجي زيدان هي التي ستكون حاضرة في الأربعينيات عند الشاب نجيب محفوظ، ولكن في نسخة لاحقة: إنها ثورة ١٩١٩م، أول ثورة قومية في العالم العربي أطلقها قادة الحركة الوطنية المصرية. حزب الوفد السياسي. يمثل هذا التعريف السياسي المهم للهوية المصرية الخلفية السياسية التي يعززها نجيب محفوظ من خلال رواياته. وبهذا المعنى يجب أن نفهم مشروعه الذي يتحدث عنه هو نفسه:
« خلال هذه الفترة، كانت مصر تشهد تصاعدًا في النزعة القومية، وسمعت الدعوات في كل مكان لاستعادة الأمجاد الفرعونية. كان لدي أعمال عن التاريخ المصري – وكان هناك العديد من الأعمال الممتازة في ذلك الوقت – وقررت أن أُكرٍّس حياتي لتقديم تاريخ مصر روائياً «
هذه العلاقة الروائية بوضعها الحاضر لا تعود إلى روايات نجيب محفوظ التاريخية الأولى، بل إلى بداية القرن، حيث تتأكد صورة الكاتب باعتباره المرشد والمربي والمصلح من خلال الكتابة المتقاطعة مع الواقع. يعطي المويلحي، بإعادة اختراع المقامة، حديث عيسى بن هشام (نُشر لأول مرة في شكل متسلسل بين ١٨٩٨م -١٩٠٠م ثم في مجلد عام ١٩٠٧م)، مثالاً جيدًا على هذا الزخم كما يوضح المؤلف في المقدمة:
» وعلى الرغم من أن هذه القصة مقدمة في شكل خيالي، إلا أنها حقيقة خالصة مقنعة بالخيال وليست خيالاً مصبوبا في قالب الحقيقة الذي نحاول من خلاله فضح عادات معاصرينا وأخلاقهم ووصف الرذائل التي ترتكبها مختلف الشعوب والتي يجب على الناس تجنبها والفضائل التي من واجبهم احترامها. »
نظرًا لإدراكه المتزايد لدوره النشط في عملية تحديث مجتمعه، كان المؤلف العربي في بداية القرن التاسع عشر يهدف إلى المساهمة في الإصلاحات من خلال قلمه: لقد وصف المجتمع من أجل إصلاحه. يمس هذا المشروع الواقعي الإصلاحي الحديث جميع الفنون (الشعر الشعبي و”الدارج” وكذلك الشعر الفصيح والأغنية والمسرح ولاحقًا السينما). ومع ذلك، فإنه يجد في الرواية الشكل الأكثر ملاءمة لتحقُقِهِ. وينعكس ذلك في روايات (جيل الأدباء في الأعوام ١٩١٠م – ١٩٢٠م) في السيرة الذاتية لطه حسين وفي كتاب (الأيام ١٩٢٩م – ١٩٣٩م) وفي رواية السيرة الذاتية لتوفيق الحكيم، ولا سيما (يوميات نايب في الأرياف، ١٩٣٦م). والحقيقة أن هذا المشروع الأدبي الذي يصف المجتمع في حالته الراهنة كما توضحها هذه الروايات، أو في تاريخه كما تفعل روايات نجيب محفوظ التاريخية، يعكس دوره الكبير في خلق الهوية الوطنية كما يوضح ريتشارد جاكموند:
« هذا المشروع الأدبي “الموسوعي” – الذي يمثل الثقافة الوطنية والمجتمع، في تاريخهما وفي حالتهما الحالية – هو في حد ذاته جزء مما يشكل النموذج الكبير الآخر للأدب العربي الجديد: النموذج الهوياتي »
وقد تم التعبير بوضوح عن المشروع الأدبي الناتج عن الاتحاد بين الحركة الوطنية والحركة الأدبية في عشرينيات القرن الماضي، ولا سيما من قبل محمد تيمور ومحمد حسين هيكل. والأخير، على وجه الخصوص، يعطي في سلسلة مقالات بعنوان “الأدب القومي” الصياغة الأكثر وضوحا لهذا المشروع: فهو يدعو في هذه المقالات إلى خلق فن وطني بإستخدام قوالب الصياغة الغربية، ليراهُ [المصريون] علامة على أنهم متقدمون مثل الغرب، وربما متقدمون عليه، في مجالات الحضارة.
إن تأثير هذه الفترة المشحونة بالمشاعر الوطنية كان حاسماً في الكتابة الروائية التي، بعد حالة الاستنفار التي تمثلها، تحاول، وفقا لجورج لوكاش، رسم “مجمل الحياة الوطنية في تفاعلها المعقد بين اللحظات المتقلبة” . وهكذا يبدأ الخيال العربي في إثراء سياقاته وتكتسب شخصياته وموضوعاته عمقاً اجتماعياً ونفسياً. ويتحقق قدوم هذا المشروع الروائي أكثر مع نجيب محفوظ الذي يبدو كأول روائي عربي يكرس قلمه بالكامل للكتابة الروائية، في حقل أدبي مليء بكتاب موسوعيين لم تكن الرواية بالنسبة لهم، رغم كل شيء، أولوية، نظراً لالتزامهم الموسوعي بعملية التحديث. فعلى سبيل المثال، عُرف جورجي زيدان كمؤرخ أدبي وكاتب مقالات وليس كروائي، كما كتب طه حسين أكثر الشعر والمقالات، بينما كان توفيق الحكيم أكثر اهتمامًا بالمسرح.
ولذلك فإن نجيب محفوظ جزء من «النموذج الهوياتي» هذا من خلال شكلين روائيين. الأول هو الشكل التاريخي الذي يستذكر به تاريخ المصريين الفراعنة وليس المصريين المسلمين، وهو ما يميز مشروعه بوضوح عن مشروع جورجي زيدان. ومن هذا المنطلق تصنف رواياته التاريخية الثلاث: (عبث الأقدار ١٩٣٩م) و(رادوبيس ١٩٤٣م) و(كفاح طيبة ١٩٤٤م). والثاني هو الشكل الواقعي الذي يتعامل به نجيب محفوظ دائمًا مع تاريخ المصريين ولكنه التاريخ الفوري إلى حد ما. هذه الفترة التي بدأت عام ١٩٣٧م مع (القاهرة الجديدة) وستتوج بالثلاثية التي سيتم فيها تحقيق “الاندماج الأكثر إنجازًا” بين الشكل الغربي والهوية المحلية كما يؤكده ريتشارد جاكيموند:
« في السياق الاستعماري، قامت النخبة الأدبية المثقفة بحل مسألة العلاقة بين الخاص والعالمي بطريقة تتفق مع الانتقائية التي تميز النهضة: كان يكفي أن نولد “أدبًا وطنيًا” إتقان الأشكال والتقنيات الأدبية للغرب الحديث ومنحها محتوى أصليًا. هذا هو برنامج “الحداثيين” في فترة ما بين الحربين العالميتين، من محمود تيمور إلى محمد حسين هيكل، وصولاً إلى نجيب محفوظ، الذي ربما تكون ثلاثيته، التي نُشرت في ١٩٥٦م – ١٩٥٧م، هي النتيجة القصوى لهذا الاندماج بين الشكل المستورد والمحتوى المحلي. . »
من خلال تقديم نفسه كروائي فقط، ينفصل نجيب محفوظ عن الحركة العامة، ولا يُعرف نفسه في المشروع الأدبي الوطني بقدر ما يُعرفه في مشروع الإبداع الروائي نفسه. بمعنى آخر، هو مهتم بإنشاء مشروع روائي فني قبل كل شيء. وهكذا، فهو يسعى إلى دقة التفاصيل وإراحة الصورة من خلال رغبته في أن يكون متذوقًا للماضي ورسامًا مهتمًا بالبناء الفني للوحته وتخطيطها، مستخدمًا مرجعًا فنيًا أوروبيًا كما تعبر عن هذا احدى شخصياته في الثلاثية:
«- هل قرأت من القصص الفرنسية شيئا؟
– بعض ما ترجم عن ميشيل زيفاكو، لا أستطيع أن أقرأ الفرنسية كما تعلمين !
فقالت بحماس: لن تكون مؤلفًا حتى تتقن اللغة الفرنسية، اقرأ بلزاك، وجورج صاند، ومدام دي ستايل، ولوتي، وبعد ذلك اكتب قصة. فقال كمال باستنكار: – قصة؟ انها فن على الهامش. إنما أتطلع لعمل جدي. فقال حسين جادًا : – القصة في أوروبا عمل جدي، ثمة كتاب يتفرغون لها دون غيرها من فنون الكتابة، فترفعهم إلى درجة الخالدين… »
في النهاية، نستطيع أن نقول إن البحث عن هوية وطنية من خلال الكتابة الروائية هي عملية معقدة وهامة استكشفها العديد من الكتاب العرب. بدأ هذا النهج بترجمة الأعمال الأجنبية، لأنه سمح بإدخال أفكار وأساليب ووجهات نظر أدبية جديدة في الثقافة العربية. ثم مرَّ بالرغبة في خلق هوية جامعة للعرب وذلك من خلال استحضار تاريخهم المشترك – وهو ما لاحظناه في مشروع جورجي زيدان وفرح أنطون – أو من خلال استكشاف التاريخ القديم للمصريين، كما هو الحال في روايات نجيب محفوظ التاريخية. إلا أن التجربة الأكثر نضجا لمقاربة الهوية الوطنية تجلت في المشروع الروائي الذي يروي التاريخ الحاضر من خلال روايات قوية من الناحية الجمالية، تصف الحياة المحلية بطريقة عميقة وأصيلة. فنجد الكتاب العرب المتخصصون في الكتابة الروائية، وعلى رأسهم نجيب محفوظ، يسعون إلى التقاط العناصر الفريدة لثقافتهم وتاريخهم ومجتمعهم ومواجهتها بالتأثيرات الأجنبية. وبذلك أصبحت رواياتهم العاكسة للواقع، وهي تغرق في المحلية مبرزةً تحديات الأمة وتطلعاتها وتحولاتها، تساهم في إثراء الأدب العالمي.