عن كثب/.. في عام 2005 زار الممثل “دانيال داي لويس” غزة وعايش غطرسة وجرائم الاحتلال عن قرب، ليروي تجربته ومشاعره وموقفه في مقال مؤثر من خمس صفحات أثار يومها غضب الكيان وزمرته، وهذه مقتطفات منه:
“اسرائيل دولة الفصل العنصري. لقد استغرق الأمر مني أقل من أسبوع حتى أفقد الحياد. ومن خلال هذا ربما أرمي الحجارة على الدبابات”.
في قطاع غزة يرد الجيش الإسرائيلي على رشق الحجارة بالرصاص. ,ويرد على التفجيرات والهجمات التي يشنها المسلحون الفلسطينيون بتجريف المنازل وبساتين الزيتون بحثا عن مرتكبيها، ومعاقبة عائلاتهم، وإقامة مناطق عازلة لحماية المستوطنات الإسرائيلية. فهو يمنع الوصول إلى القرى، ويضاعف نقاط التفتيش، مما يقطع سكان غزة عن العالم الخارجي. يحاول الأطباء النفسيون التابعون لمنظمة أطباء بلا حدود مساعدة العائلات الفلسطينية على التغلب على ضغوط العيش ضمن هذه الحدود، عبر علاج الصدمات الشديدة والاستماع إلى قصصهم. هذه الزيارات هي العلامة الوحيدة في بعض الأحيان على أنهم لم يتم التخلي عنهم.
ويمكن للدبابات والجرافات المدرعة الإسرائيلية أن تأتي دون سابق إنذار، وغالباً في الليل. الضجيج وحده، لشعب أجبر على المعاناة من هذه الانتهاكات سنة بعد سنة، يكفي لتجميد الروح. القناصة الإسرائيليون يتمركزون على أسطح المنازل. يأمرون أصحاب المنازل بالمغادرة؛ ليس لديهم حتى الوقت لجمع القدور والمقالي والأوراق والملابس قبل أن تسحق الجرافات المباني غير المحمية مثل الديناصورات التي تدوس البيض. سيتم إطلاق النار على أولئك الذين يقبضون عليهم في منطقة التوغل. وحتى أولئك الذين يختبئون داخل منازلهم قد يتعرضون لإطلاق النار أو القصف عبر الجدران والنوافذ والأسطح. العلم الأبيض الذي يحمله العاملون في المجال الإنساني لا يوفر سوى القليل من الحماية؛ وقد نتعرض نحن لإطلاق طلقات تحذيرية علينا مرتين على الأقل قبل انتهاء الأسبوع.
ولا يزال منزل أبو صغير قائما، لكن الجنود الإسرائيليين يحتلون الطابق العلوي والسطح. حفيدته ميرفت معنا، فتاة جميلة خجولة تبلغ من العمر سبع سنوات، ترتدي نظارة ذات إطار معدني أحمر، وشعرها مضفر بضفائر أنيقة مثبتة بشرائط منمقة. ترتدي بنطالًا أحمر فاتحًا وسترة من الدنيم. وفي نيسان/أبريل الماضي، سمعت والدتها سيارة جيب إسرائيلية تتوقف لفترة وجيزة على الطريق العسكري أمام منزلهم. تم إطلاق بعض المقذوفات وعندما ظهرت ميرفت مرة أخرى “كانت تلعب في الخارج” كانت تبكي وكان وجهها مغطى بالدماء. لقد غسلوها. تم سحق عينها اليمنى. وبعد شهر تم تركيب عين صناعية في غزة. كان الأمر غير مريح للغاية، لذلك كانت هناك حاجة إلى توصية خاصة من وزارة الصحة الفلسطينية لتمويل رحلة إلى مصر مناسبة بشكل مناسب. تحتاج ميرفت إلى تغيير هذه العين كل ستة أشهر، لذلك يجب على الوزارة التفاوض مع إسرائيل في كل مرة للحصول على إذن لعبور الحدود. يُسمح بمرور خمسين سيارة يوميًا. يجب أن يحمل كل منها سبعة أشخاص.
أبو صغير لديه خمسة أبناء وأربع بنات. ويقول: “ستفلس بأكثر من ذلك”. وهو يعيش بالقرب من حاجز أبو هولي الكبير في جنوب غزة. يريد من المصور توم كريج أن يلتقط صورته ويضعها على كل جدار في إنجلترا وألمانيا وروسيا. يبلغ من العمر 59 عامًا. عندما كان عمره 12 عامًا، خرج للعمل، وفي سن 16 عامًا بدأ في بناء المنزل الذي كان يحلم به، “ببطء، ببطء” كمنزل ومكان لتجمع عائلته الممتدة. لقد نشأ في بيت من الطين في خان يونس، يسمح بدخول الماء كلما هطل المطر، وكان كل فخره وأمله وسخاء روحه يستثمر في هذا الطموح. لقد عمل في إسرائيل، مثل الكثيرين هنا، قبل إغلاق الحدود أمام جميع الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و35 عامًا.
على مدى أكثر من 20 عامًا، كان لدى أبو صغير شركته الخاصة، حيث كان يبيع وينقل أثاث الخيزران. خلال حرب الخليج الثانية، سُرقت جميع بضائعه. بعد ذلك اعتمد على شاحنته للحصول على الدخل. وكان يزرع 300 متر مربع من أشجار الزيتون والرمان والنخيل والجوافة والليمون في الحقول المحيطة بمنزله. وبعد بدء الانتفاضة الثانية (الانتفاضة الفلسطينية)، دمر الجيش الإسرائيلي محاصيله “لأسباب أمنية”. تم بناء طريق يخدم مستوطنات غوش قطيف الإسرائيلية، وخلال زيارتنا كانت حركة المرور تمر بحرية ذهابًا وإيابًا، على طول حافة الأرض القاحلة حيث كانت بساتينه مزدهرة ذات يوم.
في بعض الأحيان، لا تترك العائلات المنطقة التي يتم مداهمتها، لأنها إذا غادرت فسوف تفقد كل شيء. إن البقاء في المنزل هو خطر كبير. وفي بعض الأحيان المنزل تحتله القوات الإسرائيلية، وتُجبر الأسرة على البقاء فيه كحماية للجنود. وفي العام الماضي، تم هدم ما معدله 120 منزلاً في الشهر. وفي السنوات الأربع الماضية، تم إجلاء 28,483 من سكان غزة قسراً؛ وتدمير أكثر من نصف الأراضي الصالحة للاستخدام في #غزة، والتي تتكون أساسًا من بساتين. وفي العام الماضي، قُتل 658 فلسطينيًا في أعمال العنف في غزة، وعشرات الإسرائيليين. هذا الحرث، منزلًا بعد منزل، وبستانًا بعد بستان، يحول المجتمع إلى أرض قاحلة، متناثرة ومدمجة مع محصول متقزم من الزجاج المكسور والمسامير والكتب والممتلكات المهجورة. بينما نسير في طريقنا نحو منزل أبو صغير وعائلته – إحدى العائلات العديدة التي سنزورها اليوم – فإننا نسير على تاريخ وتطلعات محطمة.
ذات يوم، شبّه “رافائيل إيتان” رئيس الأركان السابق، الشعب الفلسطيني بـ “الصراصير المخدّرة التي تتحرك وتتخبط داخل زجاجة”. وفي عام 1980 قال لضباطه: “علينا أن نفعل كل شيء لجعلهم بائسين لدرجة أنهم سيغادرون”. وعارض جميع المحاولات لمنحهم الحكم الذاتي في الأراضي المحتلة. وبعد مرور خمسة وعشرين عامًا، يبدو لي أن موقفه وسياسته تم تطبيقهما بحماس كبير.
أبراج المراقبة هي هذه الهياكل الشريرة بظلال السلطة الخبيثة في جميع أنحاء الأرض. وفي يومنا الثالث، وبينما كنا نقف عند الحافة الممزقة لمخيم اللاجئين في رفح، المنطقة الحدودية المحظورة بين غزة ومصر، اخترقت الرصاصات الرمال على بعد ياردة ونصف من المكان الذي كنا نقف فيه. لقد كان في هذا المكان “إيمان الحمس” وهي تلميذة لا حول لها ولا قوة، قد أصيبت بالرصاص قبل أسابيع فقط. ركضت وحاولت الاختباء هنا من الموت القاسي الذي جاء لها. شعرت بوجودها. السماء تهتز بأنفاسها الضحلة المرفرفة من رعبها الأخير.
*المقال نشر في 20 مارس 2005 في مجلة التايمز وتم حذفه من موقعها الإلكتروني